Wednesday, June 22, 2011

السمرمر.. يحلق بنا إلى العصر العثماني

    من قصر (أسعد باشا) القابع في سوق الحميدية بدمشق حيث الأحياء القديمة، انطلقت أحداث مسرحية ( السمرمر) ذات الطابع الاحتفالي، والتي تعود أحداثها التاريخية إلى عام (1701-1757).  وهذا العرض من تأليف  ناصر الشبلي وإخراج الدكتور تامر العربيد،  والذي قدم  في مسرح الحمراء ضمن فقرات مهرجان دمشق المسرحي الرابع عشر.

جسد العمل مقاطع من الأحداث المهمة في تاريخ بلاد الشام، مع إضافة لمسة إبداعية مستوحاة من التراث الشعبي، بغية صنع  دراما أثيرية تداعب ذهن وحس المشاهد في آن واحد، والذي استمتع بالرؤية البصرية للعرض التي رسمها المخرج  له بتقنية عالية، مما جعل جميع مفرداته تعزف على تقنيات الخشبة الفنية من خلال  استغلال "الفضاء الدرامي" ،  حيث الغناء والأداء الاستعراضي وأشكال الفرجة المسرحية .

ومن دهاليز وحمامات قصر الوالي التركي انطلقت الأحداث لترسم لنا شخصية (أسعد باشا) الوالي العثماني الذي حكم الشعب بيد من حديد، حيث تم تجسيد تلك الشخصية  بطريقة تثبت بأنه مجرد أداة يستغلها الحاكم العثماني لإدارة مصالحه الخاصة!!... وليصبح  بعد ذلك بوقا يردد نفس عباراته!

يبرز التداخل الفريد في معالجة الأحداث التي تعتمد على  "المثيولوجيا"  المستلهمة من التراث الشعبي، وخاصة عندما تستعرض المسرحية أحداث تعرض البلاد لموسم الجراد،  والذي أصبح ينتشر في المدينة ويأكل الأخضر واليابس، لذا كان لابد من البحث عن منقذ! ...ومن هنا انطلق بطلا العرض  ليخوضا رحلة مضنية، بغية البحث عن الطائر الأسطوري (السمرمر) المعجزة، والذي يستطيع أن يقضي على الجراد الذي بات يقض مضجع أهل البلاد!!...وتبدأ تلك الرحلة عندما يسند (أسعد باشا) لبطلي العرض مهمة استكشاف مكان ذلك الطائر المغمور!! الذي يجهل أمره الكثير من الناس!! والذي  يقال إنه يعيش بالقرب من أصفهان..... وهكذا يخرج الشابان في رحلة البحث، وتنقطع أخبارهم خلال  أربعة عشر عاما،  وبعد  عودتهما يجدان الوالي العثماني مستمرا في ظلمه ونهبه لخيرات البلاد والعباد .
لنكتشف في النهاية، بأن الطائر مجرد خرافه، وأنه ما قاله الوالي وأتباعه كان مجرد مؤامرة  محبوكة!.. بغية  إلهاء الناس، وجعلهم يصدقون بأن وباء الجراد قادم لا محالة!

بالرغم من ازدحام خشبة المسرح بالعدد الهائل من الممثلين، والذين يصل عددهم نحو خمسين ممثلا وممثلة، إلا أن المخرج استطاع أن يرسم الجو العام للعرض، مسجلا فرجة مسرحية تستغل فراغات الركح المهمة، حيث استخدمت الإضاءة بدرجاتها اللونية في تعقب حركة الحدث والأداء الاستعراضي للممثلين، والذين اتسموا بخفة الحركة ورشاقة الأداء، حتى خيل للمتلقي بأنه يشاهد أحد العروض الاستعراضية التي تعتمد على التعبير الحركي الغنائي.

ورغم تنويع الحركة على الركح، فإن إدارة الخشبة وضعت بطريقة مدروسة، فالراوي يقص حكاية الوالي العثماني بطريقة مسلية وبسيطة، خاصة عندما حول الحوار بين الراوي ومساعده إلى صراع درامي في الركن الأيمن من خشبة المسرح المقابل للنظارة، وهذا  جعل الأحداث تتحول إلى  فرجة مسرحية تبتعد عن النمط التقليدي المعروف عن شخصية الراوي.  كل هذا جعلنا نستمتع بمشاهدة هذا العرض لمدة ساعتين متواصلتين!..وبرغم التغيير المشهدي في حيثيات الديكور والإكسسوارات  والملابس، إلا المخرج لم يعط المشاهد فرصة، ليغفل عن مجريات الحدث الدرامي  ولو للحظة..وكان ذلك من خلال  التغيير السريع لتفاصيل المشاهد، مع استخدام الإضاءة والإظلام الخاطف، بالإضافة إلى استمرارية عزف الموسيقي الحية على الركح اثناء العرض.

هناك اشتغال واضح  على بناء الشخصيات  من خلال  العزف على أوتار الأدوار التي تقوم بها مما حولها إلى رموز ملحمية مشوقة ومثيرة للفضول ، وبرغم أنها نماذج تاريخية جاهزة، إلا أن مخيلة معد النص استطاعت أن ترسم ظلالا كوميدية لها، خلافا لما هو موجود في كتاب (حوادث دمشق اليومية) للكاتب أحمد الحلاق..وهذا جعل الجمهور يتفاعل مع تلك الشخصيات برغم أدوارها الشريرة!!..وعلى أي حال، فإن جميع عناصر العرض المسرحي ساعدت  على رسم فصول من عمر مسرحية طائر  ( السمرمر) الحائرة  بين واقعية الحدث وخيال الكاتب الذي حلق بنا بعيدا في الأفق، بغية البحث عن  الطائر الأسطورة الذي طال انتظاره!


     يذكر أن مسرحية (السمرمر) من بطولة الفنان زيناتي قدسية الذي جسد شخصية (أسعد باشا)، والفنان حسن دكاك الذي قام بدور (الراوي) بعد أن  أضفى  المخرج على هذه الشخصية لمسة فنية جعلها أكثر تشويقا ومتعة. 
 كما استطاع  الفنان كميل ابو مصعب أن يجسد شخصيتي السلطانين (محمود و عثمان) ، حيث  اتسم بقدرته على التفاوض مع أبعاد الشخصيتين من خلال التمتع بمقدرة عالية  في الانسلاخ والتحرر منهما،   برغم أنه كان يمثل الدور ولا يتقمصه..  بالإضافة إلى مجموعة من الممثلين الذين أضاءوا ليلة العرض لتتوهج بقدرات تمثيلية جماعية تتنافس في تخليد هذه الملحمة التاريخية السورية  الشعبية .
  كما تجدر  الإشارة إلى أن مسرحية (السمرمر)  قدمت خلال في الموسم المسرحي عام 1996م ، حيث عرضت أكثر من مرة، وحظيت بإعجاب جماهيري منقطع النظير، مما جعلها تحقق أعلى مبيعات تذاكر في ذلك الموسم!... وهذا يجعلنا نعول على المسرح ودوره الرائد  في إنعاش ذاكرة المشاهد، والتطفل إلى عالمه، برغم الانفتاح الفضائي الذي يحاصره.

No comments:

Post a Comment