Friday, June 24, 2011

الجرة... تكسر المألوف وتبحث عن المجهول


العرض يمسرح التراث ويرسم دراما حية ذات طابع خليجي أصيل رغم محاولة المخرج الابتعاد عن الأطر الكلاسيكية في المسرح، إلا أنه لم يستطع الافلات من دائرة الالتفاف حول الموروث الشعبي الخليجي عندما نتحدث عن التراث الشعبي في دول الخليج العربي، فإنه كثيرا ما نقرنه بالأغاني والأهازيج الشعبية التي تحكي لنا قصة رحلة الصيد والغوص وهدير الأمواج المتلاطمة في قرارة الإنسان الخليجي.. وهذا هو حال مسرحية (الجرة) للمركز الشبابي للفنون المسرحية بدولة قطر، وهي من تأليف وإخراج سالم المنصوري، وهو مخرج له العديد من الأعمال المسرحية ذات الطابع الاستحداثي.

حاول عرض مسرحية (الجرة) أن يمسرح التراث ليرسم دراما مسرحية حية ذات طابع خليجي أصيل، كما أنه استطاع أن يعكس مفارقات الواقع المعاصر من خلال التعبير الجسدي التمثيلي (البانتوميم)، فجاء العرض أشبه باللوحة التمثيلية الصامتة للتعبير عن مفارقات المواقف الدولية في عصرنا الحالي، حيث تلاشت لغة السلام، وأصبحنا نعايش دوامة من الأحداث المريرة، التي عصفت بالإنسان المعاصر حيث الحروب والعنف وإدارة المصالح.. لنخلص في النهاية حقيقة مفادها : "أن البقاء للأقوى"!.

هكذا حاولت مسرحية (الجرة) إيصال رسالة غير مباشرة إلى المتلقي من خلال السينوغرافيا العامة، فالعرض لم يعتمد على اللغة السردية التي كثيرا ما نجدها في العروض المسرحية التقليدية، حيث أقصيت الحوارات، واكتفى المخرج بلغة الجسد والتعبير الأدائي للممثل، مع الاستعانة بالديكور والاكسسوار البسيط بغية إضافة لمسة جمالية عليه. كما وظفت في العرض الألحان التراثية القطرية بعد مزجها بمقاطع من الموسيقى الحديثة، لصنع توليفة موسيقية تجسد مشاهد العرض المسرحي المقدم.. مما جعل العرض محملا بمفردات التجريب التي حرصت على مشاكسة المدارس الكلاسيكية، وبذلك يتماثل هذا العرض مع بقية العروض المسرحية المقدمة خلال هذا المهرجان، والتي قدمت صورا متعددة وأشكالا مسرحية تجريبية على مدار عشرة أيام متوالية.

ومن ناحية أخرى، فإن لغة المسرحية كانت شفافة، واستطاعت أن تلامس جو الأسطورة الشعبية أو القصة التراثية. وتعتبر القصة الشعبية من موروثات الذاكرة الجماعية، وغالباً ما يستعين بها علماء الأنثربولوجيا للاستدلال على أهم ملامح حياة الشعوب ودراسة خصائصها العامة التي تميز شعبا عن غيره. وقد ترجمت اللوحة الأولى للعرض المسرحي واقعيته التي تصف الماضي البحري لمنطقة الخليج العربي، مما جعل المشاهد يعشم نفسه منذ الوهلة الأولى، بمعايشة واقعية الشخوص والحدث المسرحي، حيث وداع البحارة عن الديرة( الوطن الأم) من خلال مراسم الوداع المحفوفة بالقلق من مخاطر السفر من قبل الأم والزوجة التي تحمل بين أحشائها وليدا لم ير النور بعد؟!.. إلا أن المشاهد فوجئ بالتحولات الدرامية على مستوى الحدث والشخوص، حيث كانت أحداث العرض أقرب إلى التجليات العبثية، مع تشربها بتيارات حديثة، استهدف كسر الاطار التقليدي المألوف، في محاولة لاستحداث لغة خاصة به ينفرد بها عرض مسرحية الجرة.
وبعد انقشاع غيمة المشهدية الواقعية تلك، والتي اختصرت الزمان والمكان، انتقل المشاهد مع أبطال العرض الذين ظهروا وهم يصارعون أمواج البحر التي رسم أبعادها المخرج من خلال لوحة (بانورامية) تصور الموج والريح وغرق السفينة والبحارة.. وبعد ذلك يتم الإعلان عن انتهاء الزمن المادي والانتقال عبر حلقات درامية، تستعرض الحدث من خلال اللعبة التجريبية المسرحية، وكسر المألوف والنبش في الذاكرة الجماعية عن عناصر الشر التي تحاول أن تقضى على الخير.
بالنسبة لشخوص العرض بدت متحولة من خلال تكشف حلقات الحدث الدرامي، فهي تنتقل من مشهدية درامية إلى أخرى، حيث بدت بواكير المشاهد أقرب إلى الطرح الواقعي فهي تصور الصياد الذي يمتهن مهنة الصيد، حيث السفر والبحث عن مصدر الرزق والعيش... والزوجة التي تنتظر مع بقية الأهل عودة الزوج الذي يمكن أن يعود أو لا؟!.. ولكن بعد ذلك، ما لبثت تلك الشخصيات أن تلاشت لتتحول إلى شخصيات هلامية، أقرب إلى الرموز والأيقونات والتي عززت الطابع التجريبي للعرض، لنجدها بعد ذلك، تعيش في صراع مع ذاتها ومع الأمواج والموت وضياع الأمل، وضياع الزوجة التي هي رمز للوطن الأم والأهل والأمان... وتكون الخاتمة، بكسر الجرة على أيدي القوى الشريرة التي غيرت ملامح الشخوص وحاصرتهم في لج البحر والبر حتى تحول الناس المحيطون بالنوخذة (الربان) إلى أدوات في أيدي القوى الشريرة لتحقيق أهدافها.

هكذا فإن بناء الشخصيات في هذا العرض، جاء ليتناسب مع الاطار العام للحدث الدرامي، والذي جعل الشخصيات متغيرة بين لحظة وأخرى، لنراها تصارع بعضها البعض وسط دوامات أمواج البحر المتأرجحة عبر أمواج البحر، والتي يصطدم بها البحارة والربان، ليدخلوا في صراع مع المجهول والقرصنة والأمواج.. ولكن هل تلك الأمواج هي أمواج البحر العاتية أم أمواج الحياة المعاصرة؟.

أما بالنسبة للديكور، فكان على غرار المسرح الجروتوفسكي، حيث اكتفى المخرج بلفات القماش للتغلب على واقعية الديكور، والتي استعرضت رحلة البحارة من خلال رسم أمواج البحر التي بدت لوحة زرقاء تتوارى خلف الصيادين، ثم ما لبثت أن عايشت مرحلة الصراع ضد الأضداد، حيث نجد المرأة وقد انتقلت إلى مرحلة المخاض لنراها تحمل طفلا وليدا ليكون رمزا آخر يضيء مع إشراقة شمس يوم جديد.. ولكن نهايتها كانت بانتصار القوى الشريرة من جديد، لنراها تسعى إلى السيطرة على المرأة والطفل ثم تمتد لتكسر الجرة!.. ولكن لماذا قامت بفعل ذلك؟.. هذا التساؤل نتركه لمن سيشاهد مرة أخرى عرض مسرحية الجرة! ويعايش هذه اللعبة المسرحية المثقلة بالكثير من المعاني والدلالات التي لم تنته بعد بكسر الجرة، ولكنها ما زالت مستمرة فنحن نعايش أحداثها كل يوم

No comments:

Post a Comment