Sunday, June 26, 2011

ندوة “الأيام” تشرّح إشكاليات المسرح العربي المعاصر

المصدر: الخليج - إبراهيم اليوسف:
،  بدأت جلسات في فندق هوليدي إن في الشارقة الندوة الفكرية المصاحبة لمهرجان أيام الشارقة المسرحية، وشارك في الجلسة الأولى التي أدارها المخرج التونسي المنصف السويسي عدد من الكتّاب والمسرحيين، فقد قدم
د . خالد أمين من المغرب ورقة بعنوان “المنعطف الفرجوي في المسرح العربي المعاصر وأسئلة ما بعد الدراما” الذي رأى أن الممارسة المسرحية في العقود الأخيرة شهدت تغييرات عميقة في مستوى بنيات إنتاجها، بسبب مجموعة من العوامل، ومن أبرزها تفاعل المسرحيين مع الفنون المجاورة، خاصة البصرية منها، بالإضافة إلى اعتماد وسائل إعلام وتقنيات رقمية جديدة أثناء صناعة الفرجة، التي أصبحت تتحكم في إنتاج وتلقي العديد من العروض المسرحية المعاصرة .


وقدمت د . فوزية بلحاج المزي ورقة عمل بعنوان “المشهد المسرحي التونسي: مدلولات التجاذب بين السياسي والجمالي” بينت خلالها أن تاريخ المسرح التونسي يمتد إلى أكثر من مئة عام، إذ أنجز في العام 1909 أول عمل مسرحي تحت عنوان “صدق الإخاء”، ثم استعرضت بعدها د . المزي منعطفات تاريخ المسرح في مرحلتي ما قبل الاستقلال وما بعده، ورأت أن المسرح الوطني امتص طاقات المسرح الجهوي وأفرغه من محتواه . وتابعت قائلة: هذا المشهد المسرحي الذي تفتحت عليه أعين التونسيين بعد أيام من اندلاع ثورة الكرامة في أوائل شهر يناير 2011 عندما أفاق المثقفون وأهل المسرح على أصوات الطاقات المسرحية الشابة تدين العابثين بشأن المسرح، وتطالب بنصيبها في الأفق .

أدارت الجلسة الثانية من الندوة يسرى حسان “مصر”، حيث قدمت فيها ثلاث أوراق الأولى كانت بعنوان “الإبداع المسرحي العربي المعاصر بين واقع الممارسة وأفق الانتظار”، المغرب نموذجاً ل: د . نوال إبراهيم من المغرب، إذ رأت خلال ورقتها أن التجربة المسرحية المغربية تتسم بالحركية والدينامية، والعمل المتواصل في السنوات الأخيرة، ثم توقفت عند سؤال الحداثة المسرحية ما دام أن المسرح يقف -كما هو رأيها- على الابتكار، فالمسرح الحديث نشأ على أساس الشك في مفاهيم المسرح الطبيعي والواقعي، وفتح الباب للتجريب على مصراعيه .

وقدم د . اليسع حسن أحمد “السودان” ورقة بعنوان “جدل والوافد والموروث . . المسرح السوداني نموذجاً” إذ رأى أن المسرح جاء للسودان وافداً .

وقدمت عزة القصابي “سلطنة عمان” ورقة عمل بعنوان “ثلاثة محاور في تأصيل المسرح العماني” رأت فيها أن البدايات الأولى للمسرح العماني تعود إلى المدارس السعيدية في مسقط وصلالة في خمسينات القرن الماضي، ليتعدد في مرحلة السبعينات دور قنوات هذا المسرح، عبر العديد من الأندية، ثم توقفت عند استعراض أشهر الفرق الأهلية، وقدمت بعض المقترحات لتطوير قطاع الفرق الأهلية للمسارح، من خلال الدعم المالي، والمهرجانات والملتقيات المسرحية، لتأصيل هوية المسرح العماني . وتلت الجلستين حوار مفتوح بين الحضور والمحاضرين .

Saturday, June 25, 2011

المسرح الجامعي بين الهاوية و الاحتراف

     في كثير من الأحيان عندما نسأل أحد الطلاب عن "المسرح"  يجيب بأنه نشاط فني تمثله جماعة المسرح، التي عادة يديرها مشرف النشاط وليس أخصائي المسرح !!

وللأسف أن ذلك التعريف البسيط عن المسرح هو الشائع  لدى الشريحة العُظمى من الطلاب باستثناء عدد محدود منهم..حيث نجدهم يكملون المرحلة الجامعية، دون أن يدركوا أهمية المسرح ومدارسه التمثيلية والإخراجية والنقدية...مما يشكل عائقا حقيقيا يحول دون تكوين ثقافة مسرحية عامة في إطار المؤسسة التعليمية وخارجها.

ودونما شك، بأن المسرح الجامعي يشكل أداة مهمة لاستقطاب الطلاب الموهوبين وتنمية قدراتهم الفنية في مجالات التمثيل أو الإلقاء وغيرها. كما يُعد المسرح الجامعي مُلتقى للطلاب ووسيلة مهمة لتعلم الكثير من أبجديات المسرح من خلال الاحتكاك بالمشرفين والمختصين والمخرجين على حد سواء ... ويُعد المسرح الجامعي مرحلة مهمة في حياة الطلاب وهو  يقدم عروضا مسرحية  تناقش القضايا الاجتماعية والتاريخية والتراثية العمانية ...ناهيك عن القيم الجميلة التي يمكن أن يغرسها في نفوس الطلبة كحب الوطن الذي سطره الأجداد، وما قدموه من تراث حضاري عظيم الذي ينصهر  في بوتقة الحضارة الإنسانية. وللمسرح الجامعي دور مهم  في بناء شخصية الطالب، فهو يساعده على التخلص من  الترسبات النفسية مثل الخوف والخجل وضعف الشخصية، فهو عامل مهم لتعزيز الثقة  بالنفس والقدرة على مواجه الآخر.

ومن ناحية أخرى، يسهم المسرح الطلابي في تعريف الطالب الهاوي بالتحديات التي تواجه الفنان وكيف يمكن أن يتخطاها ...وهذا من شأنه أن يولد لديه خبرة تراكمية تمكنه من تخطي الصعاب مستقبلا. ومن هذه التحديات التي تواجه هذا النوع المسرحي، عدم الاهتمام بالمسرح الجامعي بشكل احترافي واعتباره من الأنشطة والتسالي خاصة في ظل الاعتماد على غير المختصين والذين يمتلكون الجانب المعرفي، إلا أنهم يفتقرون إلى أساسيات المسرح الاحترافي التي تمكنهم من التعامل مع الطالب الهاوي.

وهناك تحد آخر يتعلق بقلة الدور المسرحية المجهزة  بالتقنيات تكنولوجية التي تمكن الطلاب من تقديم العرض بدون منغصات تقنية وفنية، كما تمكن الممثل الطالب من الأداء التمثيلي الرشيق على الخشبة . إلى جانب إلى انتهاء العمر الافتراضي للعروض الطلابية المقدمة عقب العرض مباشرة، ويكون ذلك لأسباب عديدة منها عدم إتاحة الفرصة من قبل المؤسسة للعرض الخارجي.
وهناك معوقات اجتماعية تتعلق بمشاركة الإناث إذ يرفض ولي الأمر في  إشراك ابنته في العروض التي  تقدم خارج أسوار المؤسسة التعليمية.. وهذا  يجعل هناك فجوة بين المسرح الجماهيري والمسرح الجامعي ونظرة المجتمع نحو المسرح.
بالإضافة إلى ضعف الإمكانيات المادية المخصصة (الميزانية) لتقديم عرض مسرحي، ومساواتها ببقية الأنشطة التي قد لا تتطلب إمكانيات مادية كبيرة...مما  يجعل المسرح  يفتقر إلى  الإمكانيات المادية والفنية .
علاوة على ذلك، ندرة الحلقات المسرحية العملية والنظرية التي يمكن أن يستفيد منها الطالب، بحيث يستطيع أن يوظف من خلالها قدراته بشكل صحيح. إلى جانب  الإطار النظري الذي يعطي الطالب نبذه عن تاريخ  المسرح العالمي                     و المسرح العماني والقنوات التي يمكن أن يتواصل معها الهاوي  لصقل موهبته بشكل احترافي مستقبلا.
ولو بحثنا عن الأسباب الحقيقية وراء تلك المعوقات، سنجد لها شقين، الأول: نابع من عدم إعطاء المسرح الاهتمام الكافي واعتباره وسيلة للتسلية فحسب.. والثاني يرتبط  بالجانب المادي، من باب أن الميزانية المخصصة لهذا النشاط ضئيلة ولا تحتمل استضافة مختص من خارج الكلية أو الجامعة  ...لذا فإنه لا بأس من الاستعانة بمشرف النشاط، فالعمل المسرحي قائم على التطوع ومجانية العمل ...
وأخيرا، عدم التخطيط الصحيح عند إقامة المهرجانات المسرحية الطلابية، مثل  الاعتماد على نصوص ضعيفة أو نصوص متقاربة في المضمون أو نصوص بعيده كل البُعد عن الواقع العماني ...وهذا بدوره يصنع فجوة ثقافية وفنية بين المسرح والطلبة والمجتمع. كما أن ذلك يؤكد فكرة أن الفن المسرحي لا يزال مهشما عن الواقع العربي وغير قابل للتطبيع.
علاوة على ذلك، عدم الاهتمام بالجانب الاحترافي أو الأكاديمي ...و ذلك في ظل غياب المختصين من المخرجين وأخصائي النشاط المسرحي...وبالمثل فإنه في الندوات النقدية يستعان بأشخاص لا تربطهم بالمسرح  سوى بعض الأعمال القليلة والذين يطلب منهم  التحليل  وإعطاء رأيهم في الممثلين والعرض المسرحي. لذا  تكون الاستفادة ضئيلة ولا تتعدى الانطباعات السريعة .
والسؤال الذي يوجه  لوزارة التعليم العالي ومؤسساتها التعليمية، هو  لماذا هذه المجانية في التعامل مع الأنشطة المسرحية، وعدم تخصيص ميزانية كافية تمكن الطلبة من إخراج عمل لا يقل جودة عن العروض الاحترافية؟... ولماذا  لا يكون هناك بند مالي لاستضافة المختصين والمخرجين سواء من داخل السلطنة أو من خارجها؟
وختاما، نؤكد الدور الرائد للمسرح الجامعي على اعتبار أنه وسيلة مهمة لتخريج جيل من الفنانين الذين يتمتعون بمعرفة وحرفية عاليه، تمكنهم من الانخراط في  مساقات الدراما العمانية...بدلا من البحث  عن أسباب ضعف الدراما العمانية والتحديات التي تواجهها بعيدا عن السرب..على اعتبار أن المواهب الفنية الطلابية لابد أن تحظى برعاية حتى يحين موعد حصادها، إذا وجدت بالطبع  الاهتمام والرعاية الكافية والأخذ بيدها من قبل الجهات المعنية بالدراما...مما يبشر بجيل من الفنانين المثقف والذي يمتلك في نفس الوقت أدواته المسرحية...هذا والحديث عن المسرح الجامعي  ذو شجون وقد يطول إلى أبعد من ذلك .









 

مهرجان الإبداع المسرحي الثالث بصور



     أبت جماعة المسرح بكلية العلوم التطبيقية بصور إلا أن تكون حاضرة في  المشهد المسرحي العماني والذي تزامن مع احتفالات سلطنة عمان بالعيد الوطني الأربعين، حيث توهجت خشبة مسرح الكلية بأربعة  بتقديم عروض مسرحية، وهي: الملك هو الملك، ورثاء الفجر، وأوراق مبعثرة، ومعزوفة التمرد .

     محظوظة تلك الكوكبة الرائعة من الطلبة العمانيين، التي احتضنها مسرح كلية العلوم التطبيقية بصور، لتبدع وتقدم عروضا مسرحية، اتشحت بوهج الشباب وحماسهم، لذا كان لابد من التوقف أمام هذه التجارب ومحاولة التواصل الركحي معها بشيء من التفصيل.


أولا: عرض مسرحية (الملك هو الملك)
 على الرغم من مشاهدتي لهذه المسرحية لأكثر من مرة، إلا أن أساليب ومدارس إخراجها تفاوتت بين تجارب الهواة والمحترفين، في حين اتفقت في استعراض الموضوع الذي بهر المبدعين والفنانين لتجارب العملاق المسرحي السوري سعدالله ونوس، وقلمه المسرحي السياسي الذي يداعب الروح البرشتية الملحمية في معظم روائعه المسرحية المقدمة على مستوى الوطن العربي.

ولقد اجتذبت عوالم نص (الملك هو الملك) الطالب أحمد البريكي، التي تباينت في استعراض الصراع على السلُطة وتعدد الشخصيات التي تحكم مملكة سعدالله ونوس، حيث جسد الشباب المشاركون التداخل الواضح بين واقع الأسرة البسيطة التي تعيش على هامش المجتمع وبين بلاط الملك الذي أصر على سبر أحوال رعيته بعدما أخفق وزيره في نقل واقعها، وفي النهاية يتنكر (الملك) ويرتدي ملابس الدهماء من الناس، ليتمكن من الوقوف على أحوالهم   التي طالما حجبتها بطانته عنه.

وعلى الرغم من محاولة الشباب لقراءة النص، وإعداده إلا أن خط الحدث الرئيسي فلت من سيطرة المعد، مما جعل كثيرا من التفاصيل تغيب عنه، الأمر الذي أضعف الترابط المنطقي بين المشاهد.
وكما هو معروف ميل ونوس إلى مسرحة التراث بأشكاله المختلفة، وسعيه لإيجاد دوائر حلقية داخل النص المسرحي، حيث يتضح للمتفرج بأنه يشاهد مسرحية داخل مسرحية أخرى، وهذا الشكل أقرب إلى القصص التراثية التي يرويها الراوي أو الحكواتي، و تقوم الشخصيات في هذا النوع المسرحي عادة  بتقمص الأدوار والانسلاخ منها. وقد تتصالح الشخصيات الحقيقية مع الشخصيات الأخرى، مثلما هو الحال في هذه المسرحية، عندما قرر (أبو عزة) الدخول إلى عالم القصور وانتحال شخصية (الملك)، في حين (الملك) تقمص شخصية (أبو عزة) المواطن البسيط في مملكته، مما جعل الأحداث في هذا العمل  تقع في دوائر حلقية متسلسلة ومتتالية، عزفت على وتر الفرجة المسرحية، التي طالما شغلت بال المهتمين بتأصيل مسرح عربي، يوظف التراث والتاريخ العربي مضمونا وشكلا.

 ولقد وقع هذا النص المعد في مطبات كثيرة، يصعب تأويلها، ومن ضمنها الاختصارات الكثيرة للنص التي حالت دون وضوح رؤية المؤلف، كما هو الحال عندما قابل الملك الحقيقي ابو عزة والذي ينتحل شخصية الملك. مما أوقع المشاهد في لبس وتساؤل..بغية معرفة، لماذا لم تتعرف الشخصيات القريبة من الملك كالوزير والحاجب عليه؟ ولماذا يتعامل الناس مع (الملك) ككرسي عرش وليس كقائد؟.. فالذي يجلس على كرسي العرش هو الذي يملك زمام الحكم، وليست مهما من يكون!!..ولابد من الاعتراف، أن إخراج مثل هذا النص من الصعب بمكان، نظرا لطبيعة المسرح السياسي الملحمي الشائكة، لذا فإن خوض هذه التجربة المسرحية تعتبر مغامرة بحد ذاتها.

وهناك اجتهادات ادخلها فريق العمل، مثل لوحة (خيال الظل) والذي  يعتبر شكلا من أشكال الفنون الشعبية المستلهمة من التراث العربي الشعبي. ولقد ظهرت لوحة (خيال الظل) في مقدمة خشبة المسرح، بقصد تلخيص مقاطع من حياة الملك وما يدور في بلاطه، إلا أنه كان  يفضل نقل تلك اللوحة إلى عمق المسرح أو على جانبيه...خاصة في ضوء اكتظاظ خشبة المسرح بقطع الديكور الكثيرة، وفي الوقت ذاته فإن صغر خشبة المسرح حد من حركة الممثلين، وجعل الحركة محصورة في منطقة معينة، وكان يمكن التقليل من قطع الديكور وإتاحة الفرصة للممثلين للتنقل والحركة.


جدير بالذكر أن هذا العرض من بطولة راشد المقيمي في دور الملك، ومحمود الغافري في دور الوزير وسعيد الوهيبي في دور ميمون وأحمد المخيني في دور مقدم الأمن ومحمد الصوافي في دور الإمام طه وعلى الغيلاني في دور عبيد ومحمد الخليلي في دور ابو عزة وفيصل السلماني في دور عرقوب..


ثانيا: عرض مسرحية (رثاء الفجر)

      ثاني التجارب المسرحية التي قدمت على خشبة مسرح كلية العلوم التطبيقية بصور، مسرحية (رثاء الفجر) للكاتب العراقي المعروف قاسم مطرود، الذي حظيت نصوصه المسرحية بشعبية واسعة من قبل المسرح الجامعي في سلطنة عمان، إلى جانب تقديم نصوصه في مسارح المحترفين خاصة  الفرق المسرحية الأهلية، وعلى سبيل المثال قدمت فرقة مزون الأهلية المسرحية عرض مسرحية (رثاء الفجر) لأول مرة خلال مهرجان المسرح العماني الأول عام 2004م، كما شاركت الفرقة بهذا العرض في أكثر من مهرجان مسرحي خارجي.

ويبحث عرض مسرحية (رثاء الفجر) في دائرة الغيبيات والموت، وذلك من خلال رحلة الزوجة المصيرية التي اعتادت القيام بطقوسها الموسمية، حيث دأبت على زيارة قبر زوجها ليلة العيد، بصحبة البخور والعطور. وتتضمن دائرة الغيبيات (بعد الحياة ) أبعادا فلسفية عميقة، تنقب في الذات حينا، وتلتحم بالرمز حينا آخر. وخاصة عندما يخرج الزوج من قبره ويتحدث مع زوجته، بينما يدور حوار  يدل على أن العلاقة بينهما لن تنفصل عقب صعود روح الزوج إلى السماء. لذا فهي ألفت الحديث معه وزيارة قبره، لإخباره بأدق تفاصيل حياتها، وتشعره بمعاناتها ووحدتها! ..فهي تبكي وتتألم على  أطلال الماضي وتناجي روحه الغائبة الحاضرة !

ولقد استطاع العرض أن ينسج من ثيمة (الموت) تركيبة مثيرة للجدل، وذلك من خلال  الزوجة التي حرصت على زيارة زوجها، حيث ظلت تكن له الكثير من التواصل والتعاطف بعد موته..والأغرب أنها كانت تحلم باليوم الذي تنتقل روحها بجانبه.. كما تبكي الزوجة ابنها الذي استشهد في الحرب، ولم تتبق لها سوى بدلته العسكرية التي علقت فوق قبره وكأنها نصب تذكاري يرفض النسيان.

ولقد ركز هذا  العرض على الحوار بين الشخصيات، والبحث عن نقاط التماس بينها، خصوصا بين شخصيتي الزوجة وشبح الزوج..فيما ظهرت شخصيتا "حفار القبور" في بداية المشهد، واللذان سرعان ما تواريا عن الأنظار. وكان من الممكن التخلص من هاتين الشخصيتين لأنهما لم يؤثرا على الحدث العام.  في حين يمكن التركيز على شخصية الزوجة وروح الزوج في رسم البُعد التراجيدي الذي يعبر عن الفراق  والمعاناة، وخاصة بعد فقدان  ابنهما الشهيد في الحرب.


 ولقد حاول طاقم العمل الطلابي رسم السينوغرافيا التي التحم فيها الرمز بالواقع، وإن كان المخرج لم يستطع الفصل بين المنطقتين عالم الأحياء والأموات، حيث جعل شخصية الزوجة ترتدي زيا أقرب إلى زي الرجل الميت، مما أوقع  المشاهد في لبس وتساؤل في فهم  ما يدور أمامه، هل  يقع في إطار عالم (الأموات) أم (الأحياء)؟!

وإلى حد ما حاول منفذو الديكور الاقتراب من واقع المقابر المألوف، برغم من استهلال العرض بظهور (روح الزوج) وهي تحلق من صالة المتفرجين باتجاه خشبة المسرح، حيث خططت مكان القبور الثلاثة وبجانبها الشجرة ...وهناك جدار المقبرة الذي التصقت به شخصيتان تمثلان الشخصيات المرتزقة التي تعيش على هامش المجتمع... ومن جانب آخر ساعدت الإضاءة في رسم حركة الممثلين، إلا أن الإظلام السريع وفتح الإضاءة بشكل مفاجىء لم يخدم العمل، وكان يفترض توظيف الإضاءة  بطريقة تبرز الفعل  الدرامي الأكثر تأثيرا على الجمهور .

هذا العرض بطولة نخبة من الطلاب الهواة وهم ، أحمد البلوشي ومريم المقبالي ومحمد الصوافي وموسى البلوشي وسعيد الوهيبي وسلطان البريكي وعلى الغيلاني 




ثالثا: عرض مسرحية (أوراق مبعثرة)

وفي التجربة المسرحية الثالثة، تواصل عطاء الشباب بغية تقديم عرض مسرحي مستوحى من مينو دراما (المواطن) للكاتب قاسم مطرود، ومن إخراج الطالب موسى الناصري. وكعادة قاسم مطرود في كتاباته المسرحية فإنه عادة ما يفضل البحث في أعماق شخوصه عن شيء يحدده سلفا، عندما يرسم شخصياته القدرية، وفي الأغلب فإنه يسعى إلى  ملامسة همها الذاتي قبل القومي.

 وفي عرض  مسرحية (المواطن) طرح  مطرود معاناة شخص يبحث عن وظيفة أو فرصة عمل، بينما الأبواب كانت تغلق أمامه...هكذا بدت الحياة في نص مسرحية (أوراق مبعثرة) كما شاءت معدة العرض سناء الهدابية أن يكون عنوانا لهذه المسرحية، بعد إعدادها مع الإبقاء على الفكرة الرئيسية لنص (المواطن).

وعلى الرغم من اكتظاظ خشبة المسرح بالديكور في العروض السابقة، إلا أن عرض مسرحية(أوراق مبعثرة)، أبى إلا أن يبعثرها  ليوجد مساحة بصرية جمالية على امتداد الركح، الأمر الذي أعطى الممثلين فرصة للحركة والتنقل بسهولة. حيث أنه لا توجد على خشبة المسرح سوى شجرة وأوراقها الخريفية، بالإضافة إلى (مقطع حديدي فاصل) يمكن للكورس من الدخول والخروج منه، بالإضافة إلى (عمود الإنارة) الذي كان يوجد في منتصف خشبة المسرح.  

ولقد ساعد الفضاء المسرحي الواسع  في زيادة الحركة لدى الممثلين المشاركين، وأسهم  في إبراز التشكيلات الجماعية التي كان يؤديها الكورس. كما برزت الشخصية الرئيسية التي كان يؤديها الطالب محمود السبع، والذي استطاع أن يستغل قدراته كممثل للتعبير عن معاناته الذاتية، برغم اصطدامه بعقبات عدة، إلا أنه كان يبحث عن فرصة عمل مناسبة، والذي مُنيّ بخيبة الأمل وقوبل بتأنيب الأهل، لذا كانت حالته النفسية  في تدهور مستمر إلى انتهى به المطاف إلى مقابلة الطبيب النفسي، ليتحدث عن ذاته، ويبحث عن الحلول التي تتيح له أن يجمع أوراق حياته التي تبعثرت مع الزمن!

وظفت الموسيقى التصويرية في هذا العرض  لخدمة الفكرة الأساسية لقضية الرجل أو الشاب، الذي كان يبحث عن همومه الصغيرة والتي كبرت معه، كما رسمت الإضاءة تنقلاته وحركته في الخشبة، إلا أن ترك عمود الإنارة  مضاء قلل من تأثير البقعة الضوئية المسلُطة على الشخصية المحورية. ومن جانب آخر ظلت كواليس المسرح من الجانب الأيمن مضاءة مما أضعف الرؤية البصرية الركحية ...بالإضافة إلى استخدام الإضاءة السريعة العاكسة لفترات طويلة أيضا كان له تأثير سلبي في تحديد حلقات الفعل المسرحي.

وهذا العرض المسرحي من بطولة محمود السبع في دور الرجل، ومحمد الصوافي في دور الأب وخليل الرحيلي في دور الدكتور، وبالإضافة إلى مجموعة الكورس التي تضم إبراهيم الجابري والحسين القلهاتي وعلي الغيلاني وجاسم البطاشي.

رابعا : عرض مسرحية معزوفة التمرد

في التجربة المسرحية الأخيرة كان الجمهور المتابع على موعد مع تجربة مسرحية أخرى عزفت على الواقع المعاش، وأرادت أن تتمرد، لذا دعتنا إلى مدينة يعيش الناس فيها وفق قانون التمرد، من خلال العرض المسرحي (معزوفة التمرد) للمؤلفتين سناء الهدابية ورقية الفورية، وللمخرج الطالب أحمد الجابري.

لعل من الأمور التي شغلت بال الإنسان منذ أن وجد على هذه البسيطة، البحث عن العدالة الضائعة بين الناس، فما بالك بالعدالة التي بحث عنها فريق عمل (معزوفة التمرد)  في قرية التمرد المزعومة، والتي ضمت مجموعة من العازفين الذين حاولوا أن يتعرضوا لقضايا الحياة وضياع الفرصة واستغلالها من قبل الآخرين الذين يجيدون لغة التملق، كما أن  الوصول إلى الزعيم كان يتطلب الكثير من التنازلات التي فرضتها بطانته، وأصبحت مألوفة لدى الجميع! 

    وتضمن نص (معزوفة التمرد) عددا من الإسقاطات العصرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ليتضح للمشاهد في النهاية أن ما يدور  في قرية المتمردين ما هو إلا نموذج مصغر لما يدور في هذا العالم أجمع  الذي ضاعت الفرص فيه، وأصبح الذي يمتثل لقيمه ومثله لا مكان له، بينما الذي يتملق وينافق هو الذي يعتلي المناصب، وبذلك خلصت  هذه المسرحية إلى تأكيد ضياع القيم النبيلة في عالمنا.

و جسد (ديكور) العرض المسرحي أروقة قرية المتردين التي تعالت فيها صيحات الباحثين عن فرص، وعزفت على أوتار الحياة التي ضاعت حقوق الناس فيها، كما  ترجمت (الأزياء) عالم الشخصيات التي افترضته الكاتبتان، وأرادتا التعبير عن مضامينه عن معاناة الشخصيات وخصوصا المحورية منها لتبيان صلتها بالواقع...في حين أسهمت (الموسيقى) التصويرية في تضخيم الحالة النفسية لدى الشخصيات، كما أنها ساعدت على رفع الإيقاع العام للعرض المسرحي المقدم.


وفي الختام هناك مجموعة الملاحظات، يمكن أجمالها كالآتي:

* ضرورة الاهتمام بالنصوص المحلية التي تناقش قضايا المجتمع العماني، إلى جانب الموضوعات المستقاة من التاريخ والتراث العماني.

*  أهمية توظيف أدوات الممثل الحقيقية، ويكون ذلك كالتالي:
1.  تعميق الإحساس الداخلي لدى الممثل بما يمكنه معايشة الدور بشكل صحيح.
2. استخدام تعبيرات الوجه والتعبير الجسدي والذي يعتبر في أحيان كثير أبلغ من الحوار السردي المتواصل.
3. ضرورة الاهتمام بالإلقاء المسرحي والمخارج الصوتية لدى الممثل، ويمكن إشراك المتخصصين في مجال اللغة العربية لتدريب الطلاب على النطق اللغوي السليم.
4.  أهمية التلوين الصوتي لدى الممثل، بحيث يمكن استخدام النبرات الصوتية المناسبة بما يتوافق مع الدور المؤدى.

* الاهتمام بالفضاء المسرحي في العروض المقدمة، بحيث لا يثقل الطالب خشبة المسرح بكم هائل من قطع الديكور والاكسسوارات، الأمر الذي من شأنه أن يعرقل حركة الممثلين على الخشبة. ولقد تخلصت المدارس الحديثة في عالم المسرح من الديكور الواقعي، وأصبح الديكور مخففا وتجريديا، وفي أحيان كثيرة  لا يتعدى قطعا بسيطة.

* الاهتمام بأزياء الممثلين بما يتوافق مع طبيعة الأدوار المقدمة، وتوحيدها في العرض والاهتمام بالتناسق اللوني وربطها بالبُعدين التاريخي والاجتماعي للشخصيات.

* توظيف التقنية في المسرح، ويمكن ذلك بإدخال الحاسب الآلي في عمل تشكيلات بصرية على مستوى الديكور والسينوغرافيا التي تخدم الفكرة الأساسية للعرض، ولا تكون مجرد إضافات.

*  الاستعانة  قدر الإمكان بمتخصصين في مجالات المسرح المختلفة كالتأليف والإخراج والتمثيل والتوجيه عند الشروع لإخراج الأعمال المسرحية الطلابية. وكذلك التنظيم لعقد دورات أو حلقات العمل في مجال المسرح  حتى ولو لفترات قصيرة كل عام، على أن تعطى أولوية الحضور لأعضاء جماعة المسرح.





 

مهرجان المسرح العماني الثالث

شهدت  الساحة الثقافية والفنية أحداث فعاليات مهرجان المسرح العماني الثالث الذي نظمته وزارة التراث والثقافة.وقد تم الإعداد لهذا المهرجان من خلال تشكيل عدد من اللجان، منها  اللجنة الرئيسية المنظمة لفقراته ولجانه الفرعية. وتكونت لجانه الفنية من اساتذة ومختصين في مجالات المسرح، فهناك  لجنة مشاهدة العروض والتي تكونت من الدكتور خالد عبدالرحيم الزدجالي والدكتور عثمان عبد المعطي والفنان سعود الدرمكي والناقدة عزة القصابي. أما لجنة النقاد  فقد تكونت من الأستاذ عز الدين المدني والدكتورة آسية البوعلي ومحمد الرحبي وعبدالرزاق الربيعي وهلال البادي ورحاب الهندي. أما عضوية لجنة التحكيم فتضم كلا من خميس البلوشي وسامي عبد الحميد ووليد إخلاصي والفنانة أسمهان توفيق وعبدالله الفارسي.
     
وجرى خلال المهرجان  تقديم العروض المشاركة بمسرح مدرسة مسقط الدولية، حيث قدمت ثمانية عروض وتم الاعتذار عن عرض (الرزحة)، نظرا للظروف الفنية الطارئة لخشبة المسرح ليلة تقديم العرض، لذا قدمت سبعة عروض مسرحية، وهي: عرض مسرحية ( رجل بثياب امرأة) لفرقة أوبار وعرض مسرحية (المعلقون) لفرقة مسرح مزون وعرض مسرحية (أوراق مكشوفة) لفرقة صلالة، وعرض مسرحية (مواء قطة) لفرقة فكر وفن وعرض مسرحية(ذات صباح معتم) لفرقة ظفار وعرض مسرحية ( الجسر) لفرقة الدن للثقافة والفن، وسوف نستعرض  العروض المشاركة كالآتي:


العرض الأول: رجل بثياب امرأة لفرقة أوبار
   
 قدمت  فرقة " أوبار " مشاركتها الأولى في مهرجان المسرح العماني، من خلال عرض مسرحي " رجل بثياب امرأة"  وهو من تأليف عماد الشنفري وإخراج أحمد معروف اليافعي. وتُعد  هذه الفرقة من الفرق الحديثة التي تأسست عام 1999م وكان قد أسسها الفنان الراحل عامر سعيد قطن. وخلال مسيرة الفرقة  الفنية قدمت العديد  من الأعمال المسرحية الفكاهية والاجتماعية الهادفة، منها مسرحيات أبو وجهين وفضولي والبخلاء وباتايا رايح جاي والعصا السحرية والصعود إلى القمة ووصية البخيل والرعب وليلة الخميس.

وطرح عرض مسرحية ( رجل بثياب امرأة) موضوعا يسبر أغوار "المجتمع القبلي" الذي  يسيطر عليه الحاكم  والأب وهو " الشيخ أبو هاجر" صاحب السلُطة والجاه. وهذه  المسرحية أقرب إلى الدراما الاجتماعية، حيث تتناول قضية تحديد جنس الطفل الذي يتعارض مع تقاليد  العائلة، التي تؤمن بأن المرأة لا تصلح للقيادة واتخاذ القرار. كما يتقاطع ذلك مع الفكر السياسي للأب وشيخ القبيلة الذي يطمح في أن لديه ولد بعد إنجاب زوجته عددا من الإناث ..لذلك سعى جاهدًا  إلى إخفاء حقيقة المولود الجديد، ليعلن بأنه ذكر رغم كلام ( القابلة أو المولدة) بأنه يحمل علامات الأنوثة، ويمكن أن نلمس ذلك كما في  المقطع التالي:


( المولدة: ولد يا شيخ ولد...الشيخ: ولد ولا  بنت..المولدة: (بارتباك) بصراحة عمري ما شفت  كذا من قبل بس على ما أظن ولد أكيد ولد!...الشيخ: كيف ما تعرفين ولد ولا بنت؟!...المولدة: اسمح لي يا شيخ ما مرت عليّ مثل هذي الحالة من قبل بس أعتقد  أنه ولد!..الشيخ:(بفرحة) يعني ولد؟!!..الحمد لله ...)." النص، ص 5".

    وهكذا تستمر الأحداث في رصد "مأساة اجتماعية" بطلتها " أنثى" برغم انه يرتدي ملابس النساء !.. ويصر والده "الشيخ" على أنه ذكر!...ويوضح  المقطع التالي من حديث هاجر ذلك: بس ما كنت أحب أشيل السلاح وكنت أشوفه ثقيل على يدي ولبسني الخنجر وكان يشيلني معه عشان يتفاخر بي قدام الرجال وألي كان يريحه أكثر لما الرجال يقولون هذا الشبل من ذاك الأسد...) " النص، ص 6"...ويخاطب الشيخ هاجر قائلا: هاجر تعلم كيف تتكلم بقوة لا تكون كما الحريم تتعلثم وترتبك في كلامك وتنقص صوتك) " النص، ص 11". وهذا جعل بطل العرض يعيش في صراع من ذاته أولا، فهو لا يعرف حقيقة نفسه، وثانيا يعيش في صراع مع الأب والمجتمع الذي يقر بأنه رجل.  وتقترب معاناة الأب مع ابنه، من الصراع  ضد المعتقد والفكر الذي يؤمن الأب به وهو صراع من أجل  السلُطة!
    ولأول مرة يتم التعرض لموضوع كهذا في المسرح العماني، برغم طرحه في أكثر من عمل في الدراما التليفزيونية...حيث زاد في الآونة الأخيرة عن الحديث  عمليات تحويل الجنس( من ذكر لأنثى والعكس)، وقد يلجأ البعض إلى التحاليل الطبية لإضفاء شرعية على التحول الفسيولوجي للفتاة أو للشاب !..وتوجد إشارات في "النص" تفيد  لجوء الشخصية للطب في تحديد نوع الجنس الذي ينتمي إليه ..حيث يخبر الدكتور هاجر قائلا: (الحقيقة الفحوصات تقول إنك ولدت تحمل الصفتين من الذكر والأنثى وهذا الشيء يرجع لعوامل نفسية بوالدك وبك شخصيا) " النص،  ص 10".

      وتُعد تيمة " الرجل الخنثى"  بمثابة القاعدة العريضة التي استأثرت على اهتمام  المؤلف في هذا العرض، واستحوذت على مخرجه التي ركزت على المجتمع " الذكوري"  الذي في  الكثير من أطره الثابتة على قيمه ومبادئه التي تؤمن بالرجل، في حين يهمش دور  المرأة على اعتبار أنها جزء من "عباءته"  التي لا تنفصل عنه، رغم مما وصلت إليه من مراكز! ..وقد تبدو تلك المعادلة عتيقة بقدم العلاقة بين الرجل والمرأة، ولكنها تظل أزلية ويصعب القطع فيها.

     اجتهد المخرج أحمد معروف في مسرحة  "الحدث الدرامي"  من خلال تصوير معاناة الشخوص التي أصبحت تتبادل الأدوار وتتمسرح لتنسج تفاصيل القصة التي عايشها أبطال العرض بشيء من القلق القبلي، الذي عادة  يقدس الرجل ويشعر بالعار  تجاه  نون النسوة، لذا كان مصير (هاجر) هو الموت في نهاية العرض، فقد  كان ضحية الاعتقاد بأنه رجل رغم أنفه!.. لذا فإن حياة هاجر تنتهي عندما تقمع على يد الأب والمجتمع، وهذه النهاية جعلتنا نشعر بهزيمة روح التمرد التي يفترض أن تعزز لدى بطل العرض ليواجه قدره التراجيدي.  ويفترض من المخرج أن يغير تلك "النهاية التقليدية" التي آلت  المسرحية إليها، ويسعى إلى تحويلها إلى  نهاية  تقترب من الرمز والإيحاء بضياع هاجر.

     ومن ناحية أخرى، هناك (سيميتيرية) جمالية في رسم الأداء  التعبيري للعرض المسرحي من خلال استغلال (السينوجرافيا العامة)، بما فيها التشكيل الجسدي للكورس تارة، الالتفاف حول الذات تارة أخرى  ، والصراع الخارجي بين الأب والابن، الأم والأب ، القبيلة والشيخ.

تضمن العرض  العديد من " الايقونات السينيماطيقية" التي تنطق بعدد من  الدلالات  بدءا من الحبال التي طوقت العرض بحاجز اجتماعي، وانتهاء بالأداء التمثيلي الذي جسدته الشخصيات  التي تشير إلى الروابط التي تعوق حركة المجتمع القبلي، فبرغم اقتناع الجميع بأن(هاجر) هو (خنثى)، إلا أنهم رفضوا الاعتراف بذلك، تحت تأثير سطوة وهيبة شيخ القبيلة..وهكذا ندرك مدى هيمنة البُعد السياسي وتأثيره على الحياة الاجتماعية للناس، برغم أن المخرج لعب على وتر المعاناة الإنسانية أكثر من المعاناة السياسية، وربما كان العرض سيكون أكثر ثراء،  لو حاول الكاتب التوسع في هذه الجانب .

 حرقت اللوحة الاستهلالية في بداية العرض المسرحي الفكرة الأساسية له، لذا كان يفترض أن يسعى المخرج إلى التخلص من التفاصيل الواقعية للنص، وعدم  تكرارها من خلال الحوار السردي وتأكيدها من خلال الأداء التمثيلي والحركي والحرص على نشر الحبال في  زوايا الركح، كما شاهدنا (الشيخ)  وهو يمسك بلجام الحبال ويتحرك الجميع  بأمره، كما ارتدت الشخصيات أزياء تتداخل فيها الحبال...وجميع ذلك عزف على نفس الوتيرة، مما جعل العرض يقع في الخطابية المباشرة، وصولا إلى تأكيد (هاجر) عنوان المسرحية بأنه "رجل بثياب امرأة" . ويفترض من المخرج أن  يعمل على اختزال موضوع العرض ويحوله إلى لغة بصرية وعدم تكرار ما يقوله النص، وبذلك يمكن أن تكون هناك مساحات من الصمت أبلغ من الكلام!

     يجدر التنويه بإن  "مساحة الركح"  لم تخدم العرض، ذلك لأنها حدت من حركة الممثلين  وقلة الإمكانيات التقنية فيه، بينما احتضن العرض كوكبة رائعة استطاعت الأداء بإيقاع جمالي تناغم مع حركة الجسد التي يؤديها الكورس، التي تتفاوت بين الإيقاع البسيط والسريع. كما اتضح البُعد الاحترافي في الإخراج، من خلال الأداء التعبيري لحركة الكورس، والذي يتلون حسب طبيعة العرض، وإن كانت هناك "هنات" على مستوى الأداء الحركي، إلا أنها تظل مرهونة بضيق الخشبة المسرحية .
     قسمت خشبة المسرح إلى قسمين، مما ساعد على الإيحاء  بطبيعة الصراع الذي ينتقل من الأعلى حيث السلُطة والأب إلى الأسفل حيث الشعب والابن، وهكذا جعلت الرؤية الإخراجية  الحدث الدرامي يتطاير بين ردهات الخشبة المتباينة المستويات، و جعلنا هذا  نستمتع بمسرحة الموضوع  والاشتغال الدائم على تنويع الإيقاع الدرامي والتضاد الجدلي والصراع حول السلُطة.

رسمت الموسيقى التأثيرية الحدث الدرامي وجعلته يتفاعل مع روح  شخصياته المضطربة،    بفعل تضاد عناصره، حيث ( الرجل والمرأة، القوي، الضعيف، الحبال، الحرية) ..هكذا استطاع منفذو العرض أن يرسموا إيقاع الحدث الدرامي بشيء من الجمالية التي جعلتنا نستمتع بمشاهدة عرض استطاع اخترق المحظور وبحث عن المستور!
قام بتأليف وتنفيذ المؤثرات والموسيقى التصويرية فيصل عمر المرهون وإخراج السينوغرافيا أحمد عوض الرواس وصممت الديكور خولة بنت سالم برهام، كما ساعد في الإخراج  خالد غالب الشنفري.  

جسد شخصيات المسرحية كل من:  الفنان إبراهيم الرواحي في دور الشيخ ابو هاجر وجلال غابش في دور هاجر ورامي المشيخي في دور أبو عبدالله ومكتوم راشد في دور صالح ومبارك المعشني في دور الشيخ ابو صالح وعائشة عيسى في دور حنان وأحمد  العماني في دور ابو جابر ووليد شعبان في دور الحارس ومشعل الشنفري في دور الطبيب.

ثانيا : عرض مسرحية  (المعلقون) لفرقة مزون المسرحية

   إن تقديم عروض مسرحية تبحث عن الجديد وتكسر المألوف، هو محور الكثير من التجارب المسرحية المقدمة الباحثة عن التغيير، وربما هذا ما سعي المخرج يوسف البلوشي عند اختياره لنص مسرحية (المعلقون) وهي من تأليف الكاتب السعودي عباس الحايك. ولقد احترم المخرج  النص، وحاول أن يترجمه، حيث ظهر الممثلون وهم معلقون، لا يعرفون مصيرهم بالتحديد، فالشخصيات الأربع تنتحب وتئن وتحاول الوصول إلى مقصدها ولكنها تبدو عاجزة!.. فهي  أسيرة السلالم المعلقة، كما أنهم  ينتظرون مصيرهم السوداوي، لذا تعيش هذه الشخصيات حالة من الذعر والخوف الذي ظل يتابعهم، كما في المقطع التالي: ( لم هذا القنوط؟..لقد واجهنا ظروفا قاسية في رحلتنا).." النص، ص 5" .

       وهكذا تظل شخصيات العرض تعيش هوس الملاحقات والخوف وعواء الذئب وتقلبات الطبيعة التي لا تنتهي، حيث الغابة والأمطار والحيوانات المفترسة، فالجميع  يفتقدون  الأمان والاطمئنان ويعيشون في صراع مع ذاتهم ويخوضون في صراع ملحمة البقاء للأقوى !..وقد عكس الكاتب ذلك على واقعنا المعاصر، حيث يعيش العالم موجة محمومة من العنف اللامتناهي، مما يجعلنا مسيرين أكثر منا مخيرين!..جميع ذلك ساعد المخرج في تصوير أبعاده الضمنية التي تتمثل من خلال نضال شخصيات العرض من أجل البقاء..كما جاء في المقطع  التالي: ( يعني إما السقوط في الوادي أو الموت بين أنياب الذئاب؟) " النص، ص 1" . وفي مقطع آخر: ( كأنك أيقظت الذئاب من غفوتها ...مضى وقت طويل وهي تترصدنا ..ولم تيأس بعد..حتى محاولتها قطع الحبال علينا لم تفلح وما زالت مصرة على البقاء) " النص، ص 12".

 لذا فإن الممثلين في هذا العرض أقرب إلى المعذبين منهم إلى المعلقين كما جاء في المعنى الظاهر للعرض، فهم في حقيقة الأمر يعانون من متاعب الحياة التي هي أقرب إلى رحلة الإنسان كما هو الحال في أسطورة (سيزيف) المتشربة بالتيار الوجودي، لذا ظهرت الشخصيات  تحاصرها احباطات الحياة المتوالية التي تبدو مثقلة بالكثير من  القيود والآلام والصراخ، لذا نرى الممثلين يكابدون الحياة بمرارتها : ( أي جرم اقترفناه لنحصد الألم والخوف؟...ليطاردنا الموت كما تطاردنا الذئاب ..أي أب قاس أنت يا أبي لتتركنا في محنتنا ..ألا تشعر بنا كم نعاني الآن)    " النص، ص 14".

     بالرغم من حرفية النص الظاهرة على العرض، إلا أن هناك اجتهادات ملحوظة على مستوى   " السينوغرافيا"، التي شكل مفرداتها يوسف البلوشي، حيث الغابة ومعاناة الشخصيات المتأرجحة بين واقعية الحدث وصراعها ضد المجهول المنتظر! ...بينما الشخصيات تعيش معاناة مع ذاتها ثم نراها تستكمل الحوار السردي ليتحول إلى معاناة خارجية ...لنجد الشخصيات تنتقل بين السلالم المعلقة من زاوية لأخرى، مما يشعرنا بالضياع وسوداوية مصير الشخصيات المعلقة فوق أحراش الغابة وأنياب الذئاب المفترسة. اشتغل المخرج على " السينوجرافيا" بغية إظهار جمالية الخشبة والممثلين، حيث لعبت الإضاءة دورًا في أعطاء العرض جمالية مسرحية تبرز التناقضات التي سادت عليها، من خلال تسليط الإضاءة تدريجيًا للانتقال من الظلام  إلى النور، كما جاءت الأزياء لتكمل بقية العناصر، وتؤكد مأساوية واقع الشخصيات المعلقة في الفضاء المسرحي.

بالنسبة للأداء التمثيلي، فبرغم أن العرض يخضع لثالوث الدراما الأساسية الممثل والخشبة والجمهور، إلا أن ضعف تقنيات المسرح، جعل الممثل غير قادر على التعبير بالشكل الصحيح، حيث كان صوت الممثلين غير واضح ...كما أن جسد الممثل ظل صامدًا وجامدًا لفترات طويلة لا نسمع سوى الحوارات السردية، مما جعل إيقاع العمل يهبط ويسير على وتيرة واحدة.

العرض من بطولة كل من الفنان مشعل العويسي وعلي الهنائي وغسان الرواحي وصابرين اللواتيا ..صمم الديكور حبيب البلوشي والموسيقى والمؤثرات الصوتية حمد الزدجالي والسينوجرافيا والإخراج يوسف البلوشي.
      الجدير بالذكر إن  فرقة مسرح مزون من الفرق الأهلية التي  تأسست عام 1991م، وقدمت العديد من الأعمال المسرحية خلال مسيرتها الفنية. و من أهم أعمالها (من السبب ؟) ومسرحية                ( الأستاذ شعبان وصل ) ومسرحية ( دعوة على الهواء ) ومسرحية ( مأساة الملك أوديب ) ومسرحية  ( قرية بين أنياب الشيطان ) ومسرحية (وجوه أخرى) ومسرحية (رثاء الفجر) 2006م. كما أن للفرقة اهتمامات بارزة أيضا في مجال مسرح الطفل العماني مثل مسرحية (القرد صديقي) ومسرحية ( الكشرة) .


ثالثا : عرض مسرحية (أوراق مكشوفة) لفرقة صلالة

       تُعد  فرقة صلالة من أقدم الفرق التي تأسست عام 1996م في محافظة ظفار، ومن أعمال الفرقة مسرحية (عيال الحارة) ومسرحية (العيار) ومسرحية (ثروة بو سالم) ومسرحية ( من سيربح المليون) ومسرحية (الحقيقة) ومسرحية (قاعة المغادرة) ومسرحية (أبو سلامة) ومسرحية (بنت الشيخ).

    حاول عرض مسرحية ( أوراق مكشوفة)، وهو من تأليف وإخراج عماد الشنفري، الكشف عن علاقة  السلُطة بالشعب، ولكن بصورة غير مباشرة، حيث ركز  النص على علاقة المدير بالموظفين أو المراجعين، ومن ثم بنى علاقة  الناس مع بعضهم البعض، من خلال إظهار تلك العلاقات بشكل كاريكاتيري وبصورة ساخرة، إزاء بعض الأوضاع الخاطئة.

     ويتسم العرض بجرأة الطرح ضد الفساد بأشكاله المتعددة، وذلك من خلال تعرية واقع  الشخصيات بغية البحث عن الحقيقة الضائعة وسط ملفات المدير أو  الشيخ الذي يمثل  السلُطة ...وذلك بسبب تجاهل طلبات المراجعين الذين يترددون على المدير العام، والذين يحاولون الكشف عن موضوعاتهم بشيء من الشفافية المغرقة في واقعية الحدث وتأزمه، ويمكن إبراز البيروقرطية الجوفاء التي يحملها النص، كما في المقطع التالي:

 (  مروان : بس يمكن عندك مراجعين أو مشغول ...المدير: المراجعين يتأجلون مش أنا المدير... ( يضحك ) وبعدين قل لي جاهز للمشروع ... ترا المناقصة تنزل خلال يومين ...مروان : جاهزين بإذن الله والبركة فيكم.... مروان : بس شركات منافسة كثيرة داخلة
المدير: ما عندها الخبرة ... وغير مستكملة الشروط .. مروان : جاهزين بأذن الله والبركة فيكم.... أهم شئ التحليل .. المدير: ما يهمك من التحليل ... مروان : بس شركات منافسة كثيرة داخلة  ..المدير: ما عندها الخبرة ... وغير مستكملة الشروط) " النص، ص1"

      يمسرح هذا العرض قضايا شرائح محددة من  المجتمع، مخترقا ثلاث مراحل من زمن المسرحية، وذلك من خلال  مقابلة المدير العام والأحداث التي وقعت أثناء اللقاء به والأحداث التي وقعت بعد الزلزال . هكذا استمرت الأحداث في نسج دراما ساخرة عن الواقع البيروقراطي المثخن بأشكال الفساد، والذي يستند إلى العلاقات الإدارية والاجتماعية بغية نيل رضا المدير العام، بينما يعيش المراجعون البسطاء مرارة تأجيل المواعيد والمماطلة وخيبة الأمل في الحصول على ردود ...وهكذا تستمر الأحداث في التدفق كاشفة أوراق الناس بشيء من السخرية  من خلال النماذج التي وقع اختيار الكاتب عليها، بغية الكشف عن الفساد الذي  يتمركز في مكتب المدير الذي تحيط البطانة الفاسدة به...فهناك الأم  التي تنتظر المدير العام، لكي تطلب منه علاجا لطفلها المريض، وبالرغم من حالة طفلها المستعجلة!.. إلا أن المدير يسند الموضوع إلى اللجنة لدراسته!!

   وهناك الشاب الذي يحمل مؤهلاُ جامعيًا منذ خمس سنوات، ولكنه لا يزال ينتظر دوره في طابور الوظائف  .. وهناك الأب لسبعة أطفال، والذي راتبه لا  يكفي لإعالتهم ...وهناك المسئول الذي يصعد على أكتاف الآخرين.. وهناك صاحب الشركات الكُبرى الذي يستولي على جميع الصفقات المالية بسبب علاقته مع المدير ..وهناك الموظف الذي يستولى على حقوقه، و الصحفية التي فصلت من عملها لكتابتها عمودًا صحفيًا نقديًا  ضد أصحاب الشأن، التي  تمثل رمزًا  للعدالة، وهي الضمير الذي يكشف الأوراق المستترة، ويمكن أن نستنتج ذلك من خلال المناظرة الجدلية  التالية:

 ( الصحفية : المدير العام لن يخرج الا أذا عرف بأننا منتظرون له من الصباح  .... لازم نرفع أصواتنا احتجاجًا على الانتظار ..مدير المكتب:  أنتي .... بتحرض الناس على المظاهرات... ووين بعد في عقر دار المدير العام ..الأعمى:  مظاهرات............ يا أخواني ترى أنا لا أرى ولا اسمع ..الصحفية: هذا احتجاج وتعبير عن الرأي بوسيلة سلمية ..مدير المكتب : هذا عصيان وتمرد ..الصحفية: كل واحد  ورأيه .... ( يتحرك  للمكتب ) يا أخوان تحركوا معي  ندخل بالقوة على المدير العام .... علينا أن نعبر عن رأينا ... علينا أن نتمسك بحقنا في مقابلة المدير العام ... من معي) " النص، ص 4".
 
وكدأب كتابات عماد الشنفري فإنها غالبًا ما تتضمن أبعادًا ثورية اجتماعية أو سياسية ...فشخصية  الصحفية ، تزرع التمرد  في نفوس الناس ضد البرويقراطية التي يمارسها المدير، معبرة عن ذلك من خلال صرخات التمرد بغية التغيير، وتحدث نقطة التحول في  الحدث بعد الزلزال، الذي جعل الشخصيات تتساوي في واقعها المحتوم. وهكذا تستمر صرخات الاستغاثة والصراخ بغية البحث عن مخرج، حيث  لا يجد الجميع أمامهم سوى الباب المغلق، ورغم  ذلك يحاول المدير  منع الناس من الاقتراب منه...هكذا يستمر الجميع في العيش تحت الأنقاض وهم ينتظرون الفرج.

       طرح  العمل العديد من القضايا المقترنة بالمتعة البصرية مع الحرص على إظهار جماليات العمل المسرحي، بغية صنع عمل فرجوي يمتع الجماهير.  حيث جرد العرض  الديكور  ليوحي إلى مكتب المدير العام، حيث السلطة أو الإدارة العليا من خلال استغلال مستويات على الخشبة، المستوى الأعلى، حيث يقبع المدير العام، وهو يأمر وينهي ويرتكب أشكال الفساد المختلفة. والمستوى الأدنى، حيث يقبع  السواد الأعظم من الشعب..وهكذا فقد ركز  المخرج  الفارق الطبقي بين شخوصه في تفعيل الصراع الدرامي. كما وظفت الإضاءة العامة في تجسيد المعاناة الإنسانية التي تعانيها الشخوص، وتعدد مستوياتها، فهناك تلك التي سلطت على الممثلين والأخرى التي ساعدت على اظهار تشكيلات  الكورس، كما ساعدت على البحث عن منفذ يقود إلى النور !

 ومن جانب آخر، فقد ارتدى الممثلون الأزياء التقليدية المستوحاة من " البيئة الظفارية"  التي توحي بتوحد الأزياء من حيث اللون ..كما هو الحال لدى معظم الشخصيات، بينما ألبس المخرج الشخصيات الرئيسية ملابس مغايرة، وهذا جعل هناك نوعًا من التناغم الجمالي بين مفردات السينوغرافيا الجمالية. أما بالنسبة للأداء فقد كسر أداء الممثلين إيقاع العمل من خلال التلوين في نبرات الصوت ومسرحة الحوار اللفظي ...ليصبح فعلا دراميًا. كما استخدم المخرج "الكورس"  في تشكيل لوحة غنائية استخدمت كفاصل، مما يؤكد ملامح " المسرح الظفاري" ...كما جاء "بكاء الطفل" بمثابة  القشة التي قصمت ظهر البعير، التي بشرت  بميلاد يوم جديد.

جاءت خاتمة  المسرحية أقرب إلى "الكوميديا السوداء"  التي تضحك وتبكي الناس في نفس الوقت، حيث  أضحى الجميع سواسية تحت الأنقاض، وبدأ العد التنازلي نحو  المصير المحتوم للشخصيات، باستثناء  الطفل الذي أصر المخرج على أن يظل حيًا ليرمز لحياة جديدة ربما الزلزال والتمرد غير ملامحها...وهكذا تقاطعت مفردات العمل في توصيف الحدث الدرامي،  والذي حظي بتصفيق  جماهيري متواصل استطاع أن يستأثر  على رضا وتعاطف الجمهور مع أبطاله التي تمردت على الواقع .

العرض من تمثيل  الفنانة سميرة الوهيبي ومؤيد  اليافعي وعيسى عجرون سليم واشرف المشيخي وقابوس الشنفري وعمر البصراوي. أما الموسيقى التصويرية في العمل لياسر بو خان ومدين غالب الشنفري .

رابعا : عرض مسرحية  " مواء قطة"  لفرقة فكر وفن

     تأتي هذه المشاركة الثالثة لفرقة فكر وفن المسرحية في مهرجان المسرح العماني الثالث بعرض "مواء قطة" من تأليف بدر الحمداني وإخراج مالك المسلماني، بينما شاركت في نفس المهرجان في دورته الأولى بعرض  مسرحية  "رحلة الألف ميل" وعرض مسرحية "بذور عباد الشمس" في الدورة الثانية، التي مثلت السلطنة أيضا في الأسبوع الثقافي العماني في الجزائر عاصمة الثقافة العربية2007م. ولقد تأسست هذه الفرقة  عام 1996م.

وقد تميز عرض  مسرحية ( مواء قطة)  عن بقية العروض المسرحية بالتجديد على مستوى الشكل والمضمون، حيث يمكن تصنيف هذا العرض ضمن العروض المسرحية  ذات الطابع الفكري الفلسفي الذي  يتوغل في الأبعاد  النفسية للشخوص، ويسعى إلى استكشاف عوالمها الخفية الباحثة عن الحرية، وهو عرض يقترب من العروض الاحترافية .

 ولقد قدم العرض "تيمة" تتصل بالحياة الزوجية، ولكن الكاتب عرج بنا بعيدًا عندما حمل النص الكثير من الاسقاطات الاجتماعية والسياسية المغرقة في الرمزية ...وهذا جعل الشخصيات عبارة عن أفكار ورموز، مما يجعل نصوص الحمداني تقترب من "مسرح الفكرة"، الذي كان أهم رواده في الوطن العربي هو توفيق الحكيم.

ولقد افتتح العرض بحديث ابو الشوارب: (في ذات يوم هارب مهرول بعيدا عن قضبان الذاكرة..في ذلك اليوم المشئوم قتلت قطا رضيعا..حشرته خلف الباب الخشبي..أرخيت  الباب وضغطت  عليه بقوة ) " النص، ص 2" . ويفصح هذا المقطع عن  لغة حوارية مشحونة بالكثير من المفردات التي توحي بواقع شخصيتي العرض التي بدأت تتكشف مع الأيام. لذا جاءت  لغة النص غير مباشرة وتتضمن عدد من الدلالات والمعاني الخفية، بدءا من "القطة"  المحشورة خلف الباب، حيث يحاول " ابو الشوارب"  تحريك الباب والضغط عليها.. التي سرعان ما  فارقت  الحياة!.. نتيجة هذا الضغط المستمر عليها. وكأنه يريد القول بإن هكذا هو  حال  "حرية التعبير"  في الوطن العربي التي تعاني من تضييق الخناق، و إن تفاوتت نسبها ولكن في مجملها تكون جزئية !... لذا جاء نص " مواء قطة" بهدف البحث عن "الحرية" الضائعة بين الباب وشخصية ابو الشوارب المهزومة : ( في الحقيقة أنا ما اخترت هذا الدور ..هم أجبروني على تقمصه...هم بدأوا بحشري خلف الباب وضغطه علي بكل قوتهم..أجبروني أن أكون قطتهم الصغيرة العاجزة) " النص، ص 3"، وبذلك تكون الشخصيات مسيرة  أكثر منها مخيرة في تحديد مصيرها.

هكذا يصر مؤلف النص على أن تبقى حرية (ابو الشوارب) محشورة بين الباب، والذي تقمع حريته من خلال التحكم في حاجته المادية والجسمية، فهو وزوجته يبحثان عن قطعة خبز، وأخيرًا تجبرهم  الحاجة إلى التخلي عن قيمهم...لذا فهو يصر على تذكير زوجته بالابتعاد عن الباب، مخاطبا أياها قائلا: ( اشعر بأن روحك ستحرر من قبضته فارقي الباب قليلاً ..ليترك لك مجالاً للبقاء محشورا خلف بابه المأفون) " النص،  ص 6".

ومن ناحية أخرى، تبرز من خلال علاقة الزوجين  مضامين عديدة، التي تتعدى الحياة الاجتماعية إلى وصف الأنظمة السياسية...هكذا تتشابك خيوط الأحداث، لترصد الواقع العربي المترهل عبر حلقة من  الأنظمة المركبة  التي تجعل المواطن العربي مثل  " القطة" يقف خلف الباب خائفا مرتبكا. وعلى مستوى الاجتماعي نجد أن الزوجين هما ضحايا الواقع الاقتصادي الذي هو ظلال للأحداث السياسية المحيطة!

اتسم هذا العرض باستغلال طاقات الممثل الجسدية للممثلين حيث برز بطلاً العرض ميمونة وحمود الجابري بأدائهما الرشيق على الركح، وسجلاً حضورًا ثنائيًّا لافتًا للنظر، استطاعا من خلاله أن يتواصلا مع الجمهور ساعة من الزمن، دون أن يشرد  المشاهد منهم..كما استطاعا أن يلعبا على التمثيل والتقمص في آن واحد، ويمكن أن نلاحظ ذلك عندما انقسمت  الشخصيات، إلى أكثر من شخصية:

( عذراء : أبو الشوارب ..هل علمت شيئا عن آخر أخبار أبي الشوارب؟...أبو الشوارب: ما علمت شيئا عن أخباره ...هل علمت بخبره؟..اخبريني أرجوك كم اشتاق إليك يا أبا الشوارب..حدثيني عنه يا عذراء ..لا أكاد أتعرف عليه...غاب عني واطال الغياب...عذراء : حدثتني زوجته العذراء أنه تغير كثيرا جدا...أبو الشوارب:  أبو الشوارب يتغير؟...هذا ضرب من المستحيل..هذا أبو الشوارب على سن ورمح ..أبو الشوارب شيخ الرجال!..يمشي بين الرجال متبخترا بشواربه وصقوره الجارحة والجامحة ) " النص، ص 11-12".

  بدت "الخشبة"  على المسرح شبه عارية سوداء، سوى من بعض قطع الديكور البسيطة، وهذا أتاح للممثلين سهولة التحرك... في حين كان يفترض أن  تساعد "تقنية الإضاءة" في تحديد الأماكن التي يظهر الممثلون عليها ، إلا أنه يبدو أن المخرج خانه التركيز على لحظات الضعف والقوة في العرض. كما أنه لم يستغل  فضاءات الخشبة في اللعب على الظلال والضوء على الركح.

      تميز العرض بتوظيف "عازف الكمان"  بدلاً من المؤثرات الموسيقية الجاهزة، وهذا خدم العرض التي كثف المخرج  "الفعل الدرامي" عندما انتقل من فكرة إلى أخرى من لحظة اختناق القطة وموائها إلى لحظة اختناق الزوجة وعدم قدرتها على المواء!..وعندما فقدت القدرة على التعبير فإنها أصبحت بلا مواء !..وبعد أن  ضاعت فحولة أبو الشوارب وأصبح الغريب يتعدي على زوجته، ولم يتردد أن  يقدم  زوجته ثمنًا رخيصًا من أجل الحصول على رغيف خبز!...هكذا تسلسل الأحداث في تصوير معاناة أبو الشوارب التي تعتمل في ذاته، وتدور في واقعه الذي ينوء  بالكثير من الآلام والهموم التي تلازمه.

     هكذا جعلنا العرض نعيش حلقات متتالية تتضمن جرعات مضاعفة من الضخ النفسي للتعبير عن أكثر من قضية، لذا لجأ المؤلف إلى الالتفاف حول القضايا للتعبير عن هموم الشخصيات، ثم جعلها تتمسرح وتتقمص الأدوار لتروي  وقعها المرير الذي يلتفت إلى الماضي.  لذا فإن كلا الممثلين  يتملكان قدرة هائلة في التواصل والشحن النفسي والتعبير الحركي، والتلاعب بنبرات الصوت مما يجعلها تتقمص أكثر من دور ...هكذا يتواصل الحدث في التدفق اللفظي والحديث بصوت "الأنا" عند التعبير في لحظات الضعف والقوة، ثم تتحول تلك الشخصيات إلى الرواية السردية في مواقف أخرى.

    أما بالنسبة لنهاية المسرحية فقد جعلها المخرج نهاية ساخرة، حيث يتنازل  "أبو الشوارب" عن  رجولته، مما جعل  المشاهد يصدم  بما حدث له،  خاصة بعد أن وقع  في الحضيض حيث البغاء والفقر وفقدان القيم النبيلة والأخلاقية..وتحول إلى مجرد قطة لا حول له ولا قوة!

خامسا : عرض مسرحية ( رجل بلا مناعة) لفرقة مجان
     يُعد عرض مسرحية ( رجل بلا مناعة) من تأليف الدكتور عبد الكريم جواد، ومن إخراج سيف المعولي، من العروض القديمة الحديثة، حيث عرض على خشبة مسرح الشباب بمسقط سابقا، وهو في ذات الوقت، يعتبر من العروض الحديثة، لكونه يتضمن موضوعًا لا يزال حديث الساعة، وإن كانت حدة الذعر قد خفت قليلاً عن السابق حيث لم يُعد مريض الايدز يعامل بهذه القسوة!
واستهل هذا  العرض بـ "لوحة تعبيرية"  لخصت معاناة بطل العرض( مسعود) ، كما ساعدت  الأشكال التي وضعت على الخشبة ليتسلل الممثلون خلالها، وكان هناك ممثل مغطى بقطعة من القماش في الوسط ...وبعد ذوبان تلك اللوحة التعبيرية ضمن إطار العرض العام، بدأت الأحداث  تلامس الهم الواقعي، ليتحول إلى مشهد يتضمن مزيدًا من الشحن النفسي من خلال حوار الزوجة مع زوجها.  كما استخدمت الأطر الدائرية لدخول وخروج الممثلين ضمن أطار الخشبة، بدلا من الولوج إلى كواليس المسرح بالطرق التقليدية، مما شكل بُنى متعددة تقوم على الانتقال بين الواقعية والرمزية .
       اعتمد العرض على "مأساوية الحدث" كقاعدة عريضة بنت عليها معاناة بطل العرض                 (مسعود)، والذي عرف عنه كثرة الأسفار وإقامة العلاقات غير الشرعية، مما جعل زوجته تعيش مرارة الواقع المأساوي. وبعد إصابته بالمرض عايش صراعًا داخليًّا حيث الآهات والحلم، ويمكن أن نلمس المعاناة، من خلال جدال مسعود مع زوجته، بعدما أصر على تجاوز المحظور، والجري وراء ملذاته: (مسعود: أنا الوحيد الذي لم استطع حفظ قائمة الممنوع..العيب والحرام ..) " النص، ص 51".
وهناك صراع آخر يعيشه بطل العرض، كونه بطلاً تراجيديًّا يسعى إلى حتفه، لذا يكون أولاً ضحية نفسه، وثانياً: ضحية الواقع المرير عندما يصطدم بحقيقة ويبدأ الجميع في محاربته وهو يشكل مصدر رعب للجميع ... لذا نراه  يترجى من زوجته بألا  تتركه:( مسعود: بسمة ..شجرة حياتي يابسة كوني أنت فيها غصنا أخضر..أرجوك لا تحرقي ما بقي من الشجرة..الزوجة: لو كنت تريد أن تحافظ على الغصن الأخضر لكنت سقيته ورويته وحميته من هبة ريح تقتلعه من الجذور) " النص، ص 55"... عقب ذلك، يتم  تكبيله بالقيود لأخذه إلى المستشفى، ومعاملته بقسوة كالمجرم!
     وبالإضافة إلى الحدث الرئيسي، أوجد الكاتب قصة ثانية رومانسية من وحي خياله من خلال  تصوير العلاقة العاطفية التي بدأت تنشأ بين المريض بنقص المناعة والممرضة، التي زرعت في نفسه بذور الأمل، وبرغم عدم منطقية الأحداث وعدم ارتباطها الواقع، إلا أن النص  أراد القول إن الأمل موجود رغم قتامة الأحداث، إزاء واقع المريض الذي ينتظر الموت، إلا أن  الحل كان عن طريق "زخات المطر" التي  توحي بميلاد حياة جديدة بعد أن التقى بالممرضة، التي زرعت في نفسه حب الحياة ورسمت في شفتيه الابتسامة:

( مسعود: الغيوم السوداء تكتم أنفاسي..لا تترك فسحة لحمامة بيضاء تقترب من أغصاني اليابسة..الممرضة: حتى في الغيم الأسود خير..يوم يتحول الغيم إلى مطر..مسعود: (متسائلاً: المطر؟ ..الممرضة: المطر فيض محبة ورحمة) " النص، ص87"، بينما عندما يموت رمز الأمل والحياة، يردد مسعود قائلاً: ( تغير لون المطر..تغير حس المطر ..صار المطر جفافاً)"النص، ص 112" ..وكانت تلك آخر كلمات مسعود، قبل أن يغادر الحياة..فالعرض يريد أن يقول ليس المرض هو الذي قتل مسعود، وإنما نظرة المجتمع  والمعاملة القاسية التي يعامل بها مريض نقص المناعة، تكون أحيانًا سببًا في أفول نجمه وضياع عمره!..ولو رجعنا إلى الوقت الحالي، سنجد أنه بالرغم من التوعية بطرق انتقال هذا المرض، حيث  يمكن أن يكون ضحاياه عن طريق نقل الدم أو أولئك الذين يستخدمون الإبر الملوثة، بالرغم من ذلك، إلا الناس ما زالت تصاب بحالة من الذعر، عندما يسمعون عن هذا المرض.
عانى العرض من كثرة الشخصيات التي ظهرت على الخشبة، التي جعلت المشاهد حائرًا ما إذا كان هذا العرض واقعيا، أم أن هناك لمسات فنية، حاولت أن تصعد الحدث، وتجعل هناك أكثر من ذروة درامية له، منها: ( علم مسعود بمرضه وصراعه مع زوجته، القبض عليه، حركة الإبرة أثناء محاولة حقنه لتصيب العسكري، لقاؤه بالممرضة سماح، وقوف الأب والطبيب ضده واللذان يشكلان رأي المجتمع) ...وأن كانت تلك "القمم الدرامية"  تخفت قليلاً في بعض المواقف فيهبط الإيقاع المسرحي، رغم استمرارية الحوار السردي .
     بالرغم من واقعية الأحداث المغرقة في حيثيات الحياة، إلا أن المخرج سعى إلى تشكيل العرض، من خلال الاعتماد على تنافر لوني الأسود والأبيض في تشكيل الرؤية البصرية التي أوحت للمشاهد، بازدواجية التي تمزج بين الواقع والخيال، في حين ارتدى الممثلون أزياء واقعية، مثل الزوجة التي أرتدت الزي العماني، والشرطة الذين ارتدوا الملابس العسكرية، والممرضة والطبيب وكل من اللذين  ينتمون إلى المستشفى ارتدوا ملابس تتلاءم مع طبيعة عملهم.

      جسد شخصيات هذا العمل نخبة من الفنانين العمانيين، هم: حنان العجمية، ويونس البلوشي، وخميس الرواحي، ووليد الغداني، وإبراهيم البلوشي، وعلي العامري، وناصر الأخزمي.
 ويجدر التنويه، إلى أن فرقة مجان المسرحية تأسست في مرحلة مبكرة من عمر المسرح العماني منذ عام 1988م، التي تكونت من رواد المسرح والدراما، وتم اشهارها عام 1998م،  ومن أعمال الفرقة:  مسرحية (البراقع)  ومسرحية (العائد من الزمن الآتي) ومسرحية (السلم) ومسرحية (سعادة المدير العام) ومسرحية (العائلة)..وغيرها من الأعمال.

سابعا: عرض مسرحية ( ذات صباح معتم ) لفرقة ظفار

   يُعد عرض (ذات صباح معتم ) للمؤلف عبد الرزاق الربيعي والمخرج طالب كحيلان من أعمال فرقة ظفار المسرحية المتميزة ، وقد قدمت الفرقة عددًا من الأعمال، منها : مسرحية (مملكة الأشرار) ومسرحية (عيال الحارة) ومسرحية (أستار) ومسرحية ( الحقيبة) ومسرحية (الهاوية)....كما شاركت بعرض مسرحية (غيث السماء) في ألمانيا.

     يتضمن هذا العرض مضامين عدة تنطوي على عدد من الأبعاد الفلسفية التي ترمز  إلى غياب قرص الشمس،  نتيجة ضياع  الضمير الإنساني. حيث يفتتح العرض بصوت نشرة الأخبار التي تقول: ( إضراب  الشمس عن الشروق هذا الصباح) " النص، ص2"..وخرج رجل ليقول وهو في حالة هلع وفزع: ( الشمس ملت من الإقامة على أرضنا...كنا نختبئ عنها في جحور الأرض، ولم نهتم لأمرها، ولطالما لعناها في الصباح لأنها تفسد علينا نومنا) " النص، ص3" .

هكذا نجد أنفسنا أمام تساؤل كبير، وهو كيف يستطيع الناس التصرف في ظل غياب الشمس؟ .. وتتكشف الأحداث عندما  يشعر الجميع بالاعتراف بعقدة الذنب. عقب ذلك تتوالى الأحداث من خلال خروج عدد من الشخصيات من عباءة الحدث الرئيسي، الذي ينبلج من تيمة "غياب الشمس" حيث نتفاجأ بظهور أكثر من شخصية تمثل تيارًا فكريًّا، حيث برزت شخصية (الشيخ) الذي يدعو الناس إلى الحق وعدم ارتكاب الرذيلة، كما يدعوهم  إلى الاعتراف بالخطايا كنوع من تطهير الذات ..لذا فإن في ذلك اليوم يجتمع الناس ويبدأ كل واحد منهم  في سرد قصة ارتكابه للخطأ ...على أمل يكون ذلك الاعتراف بمثابة تطهير الذات البشرية، حيث قال الشيخ في أحد المقاطع : ( إنها الساعة التي جاء ذكرها في الكتب السماوية).." النص، ص7".

   كما شكل (غياب الشمس)  إطارًا عامًا يختفي وراء عباءته عدد من الشخصيات، منها اللصوص الذين يتسللون خفية في جنح الليل مستغلين ظلامه الحالك بغية القيام بالسرقة، حيث يقول أحد اللصوص: ( دع الأمور لوقتها، المهم أن نستغل هذه الفرصة التي لم تتح لغيرنا)..                        " النص، ص 17" ..فيما يستغل رجال الأعمال غياب الشمس لتحقيق مآربهم التجارية  مثل إقامة الملاهي الليلية، كما في المقطع التالي: ( التاجر: وما أهمية التجربة ما دام هدفنا أن نربح أكثر ...إن ما نريد هو أن نستغل هذا الظرف لمدة قصيرة ثم نهجره إلى عمل آخر) " النص، ص 21". بينما يتقاطع حوار العراف مع الشيخ : ( العراف..ألم تسمعوا بالطوفان وغضب السماء ..إنها  ستدوس مدينتكم إذا لم تصافحوا الشمس. الشيخ: إن الساعة قائمة لا محالة ..ستدمر المدينة ..أيها الرجال صدقوا هذا العراف واعملوا بما يقول) " النص، ص 37".

ثم يطلب الشيخ من أهالي المدينة أن يعترفوا  بخطاياهم، حيث يقول في أحد المقاطع: " هيا يا أبنائي ..اعترفوا ..الخطيئة مقدرة على البشر ...اعترفوا لتعود الشمس لتعل رؤوسكم الجرأة والصراحة وسنغمض أعيننا، أما المخطئ فليصعد على هذه الصخرة وليدق برجله الحجر، عندها سنرفع أعيننا إليه  لنستمع إلى خطيئته..) " النص، ص 39". وهكذا تستمر الشخصيات تدور في حلقات الحدث المتوالية في سرد تفاصيل الخطايا التي ارتكبها أهالي المدينة، التي ربما كانت من أسباب أفول نجم الشمس وضياع ضمير الإنسانية!

 اشتغل المخرج على " السينوجرافيا"  العامة لتشكيل الأجواء التي ترتبط بالعتمة، لذا أوحت المشاهد  بشيء من الهلامية المفزعة، التي كانت سببًا  في زيادة الإيهام لدى المشاهد، خاصة أن العرض يحتمل نوعًا من الشاعرية الجمالية. وقد صور الديكور العام للعرض المسرحي مدينة تغلب عليها الألوان الداكنة التي تعكس معاناة الناس نتيجة سيادة ظلام الليل الحالك في عز النهار !

ولقد استخدم المخرج " قناديل الكورلسين"  المضيئة بغية أعطاء جمالية  للعرض، حيث أنارت العرض، وأعطته توهجًا أضاء الزوايا المعتمة عند غياب قرص الشمس. في حين جاء استخدام الدخان للإيحاء بضبابية المواقف الدرامية، إلا  أن زيادة  كمية الدخان حجبت الرؤية، كما تسبب ذلك في الشعور بالاختناق للجمهور خاصة في المقاعد الأمامية، ونأمل في العروض القادمة أن تختفي هذه الظاهرة في المسرح العماني، فهي تقليدية ولا تضيف شيئًا يحسب للعروض المقدمة! ...كما تخللت العرض الإضاءة التي تباينت في رسم الحدث ومواقف الشخصيات وخصوصًا الشيخ الذي كانت تحيط به هالة من النور، التي  تتباين بين اللون الأصفر والبرتقالي، مما زاد  العرض توهجًا وجمالاً . في حين تباينت ألوان الإضاءة الأخرى،  في تصوير المواقف الإنسانية وحالة الغليان التي تعيشها الشخصيات في هذه المسرحية.

وعلى مستوى المؤثرات الموسيقية، وظفت  "آلة السكسفون" الموسيقية  في تضخيم "الحدث التراجيدي"  الذي يصور الليل الحالك وظلامه الدامس، مما  ساعد في تصوير التوتر المشهدي، نظرًا لما عرف عن هذه الآلة، بمقدرتها على رفع الإيقاع التراجيدي، ولكن المخرج لم يكتف بذلك، وإنما لجأ إلى استخدام  المؤثرات الموسيقية الأخرى..ولو اكتفى بأنغام هذه الآلة لكانت أكثر تأثيرًا في تصعيد الإيقاع وإعطاء المشاهد شاعرية أكبر بغية  تلمس مفرداته الجميلة.

غلب على العرض الأداء الجماعي من خلال الحركة الاستعراضية للممثلين، والذين  كونوا  كورسًا يتشكل حسب الأداء التمثيلي والاستعراضات الراقصة، وارتدى الممثلون  "البشت الأسود" باستثناء الممثلة التي كانت ترتدي زيًّا  نسائيَّا مختلفًا...لذا جاء  الأداء التمثيلي متماثلاً، وعزف على وتيرة واحدة، باستثناء (الشيخ) الذي كان يرفع إيقاع العمل بين الفترة والأخرى. وبشكل عام، جاء مستوى الأداء في أطار قدرات المشاركين، التي كانت تحتاج إلى مزيد من التدريب على استغلال قدراتهم الابداعية. كما قلصت المشاهد في العرض عن النص الأصلي، مما جعل العرض  يفتقد الوحدة العضوية بين أحداثه، لذا كانت هناك قفزات سريعة، جعلت المشاهد يدور في لج الحدث الدرامي بسرعة إلى أن تفاجأ بأنه وصل إلى خاتمة المسرحية، التي كشفت السر حول غياب قرص الشمس. العرض من بطولة  الفنان محمد باشعيب و هشام اليافعي والفنانة الإستعراضية المغربية نادية عقيل و ممدوح اليافعي ومجموعة من أعضاء الفرقة .

      وتبقى تجربة عرض مسرحية (ذات صباح معتم) تجربة فنية تتصف بنوع من الشاعرية والتحليق في عوالم الذات البشرية، الباحثة دائمًا عن مرافئ الحقيقة التي تبدو في أغلب الأحيان مغيبة، وتختفي وراءها  الأقنعة التي رسمها البشر، لذا دارت في رحى المجتمع بشيء من المعاناة للبحث عن القيم والمثل التي غابت مع قرص الشمس ذات يوم!

ثامنا : عرض مسرحية  ( الجسر) لفرقة الدن للثقافة والفن

      شكل عرض (الجسر)، جسرًا ممتدًا لاستمرارية العروض التي تباينت في موضوعاتها وأشكالها، بغية تشكيل،  مشهد فني  خلال مهرجان المسرح العماني الثالث.  وهذه المسرحية مأخوذة من رواية "حين تركنا الجسر" لعبد الرحمن منيف، وهي من تأليف آمنة ربيع ومن إخراج كل من  فيصل البوسعيدي ومحمد النبهاني من فرقة الدن للثقافة والفن بولاية سمائل، وتُعد هذه الفرقة من الفرق النشطة التي قدمت العديد من الأعمال المسرحية من أهمها مسرحية (العاصفة) ومسرحية (سيف الجن) ومسرحية (الموت الهادئ) ومسرحية (الرصاصة الأخيرة) ومسرحية (آخر الرجال المحترمين)  ومسرحية (نجوم المنتخب) ومسرحية (العاصفة) ومسرحية (الجسر).

 ولقد طرح عرض مسرحية (الجسر)  عددًا من التساؤلات التي استطاعت أن  ترسم أبعاد الهزيمة في ذات الرجل واقترانها بنكبة 1967م، هذه المزاوجة جعلت العرض متشربًا بالعديد من القيم والمبادئ كما أخذت بُعدًا سياسيًّا من خلال ارتباطها بهزيمة الجسر، حيث يقول أمين إحدى شخصيات المسرحية : (الإنسان لا ينسى هزيمته الخاصة. أنا حزين لأنني أتذكر الجسر دائمًا) " النص، ص 129".

 و بدت الهزيمة متمثلة في هزيمة الجندي أمام أعدائه، وربطها بضعفه أمام زوجته....هكذا تطايرت في العرض عدد من المفردات التي تتضمن المعاني الخفية والظاهرة، التي يمكن أن نلمسها من خلال "النص المركب"  في معانيه، والذي يقرن هزيمة الرجل في المعركة بهزيمته أمام زوجته: ( أنا تعبت لا أدري لماذا قبلت بك زوجًا وأنت مهزوم وتافه) " النص، ص 126"..كما تصفه الزوجة في مقطع آخر قائلة: ( لذلك حينما تزوجتك كان كل شيء فيك محطما، روحك وجسدك) " النص، ص 135".
هكذا ظلت شخصية قاسم الجندي المهزوم التي يقوم بأدائها (إدريس النبهاني)، ترسم لنا  امتداد الهزيمة، التي سعت الكاتبة على تضخيمها لتتحول إلى مجموعة انتكاسات سياسية يعيشها في عالمنا العربي!
وقد تضمنت المسرحية جانبين حرصت المؤلفة على التوغل في ثناياهما، هما الجانب الواقعي الذي يصور الزوجة والزوج، وحالة العجز الجنسي الذي يُعاني الرجل منه، أما الجانب الآخر وهو  ماضي الرجل العسكري الذي ظل يُعاني من هواجسه المهزومة التي باتت تلازمه بعد نكبة عام 1967م، وجعل هذين الجانبين يتلاحمان، ويبرز ذلك التلاحم في أكثر من موقف، إلا أن أهمها، عندما تشبه المرأة بالبندقية!.. حيث تقول الزوجة في أحد المقاطع: (أنا مثلك انتظر، وانتظاري يشبه حال تلك البندقية) " النص، ص 125" .وفي مقطع آخر يقول قاسم:  (صدقًا  كم تمنيت أن أحتضن البندقية مثلما أحتضن أصابعك الطرية..خذيني إليك يا بندقيتي العظيمة) " النص، ص 146"
       فيما جاءت  " السينوجرافيا"  العامة للعرض بسيطة، ومالت إلى الرمزية  في رسم أيقونات العمل، حيث وضع "سرير" في الجانب الأيسر من خشبة المسرح، في حين وضع "كرسي" في مقدمة خشبة المسرح، وكانت الألوان الغالبة، اللون الأبيض برغم سوداوية موضوع المسرحية.
 كما  استغل المخرجان الإضاءة بشكل مكثف يخدم الموضوع، وخاصة في ضوء فقر  الخشبة من  الديكور والاكتفاء بسرير ودلو وكرسي، وهذا جعل هناك فضاء مسرحيًّا يسمح بحركة الممثلين عليه.
      شكل جسد الممثل عنصرًا مهمًا في التعبير عن أبعاد الهزيمة النكراء في هذا العرض، لذا  كان على الممثلين أن  يبذلوا جهودًا كبيرةً في أداء الشخصية بأبعادها التي يفترض أن تعيش واقعها المهزوم بشيء من السوداوية، وهذا حمل الفنان (إدريس النبهاني) مسؤولية اللعب على أوتار الشخصية إزاء واقعها الصعب! ..فيما قاسمته  الفنانة (منيرة الحاج)  في أداء الدور، وأن كان أداؤهما يحتاج إلى مزيد من التدريب على أساسيات فن  التمثيل والتعبير الحركي، فيما جاءت الشخصيات  الأخرى مكملة للحدث الدرامي.
بالنسبة للخاتمة كان هناك أكثر من نهاية للعرض المسرحي، ولا نعلم ما إذا كان المخرجان قصدا ذلك، بغية تصوير الجندي وهو يمر بأكثر من هزيمة، مما يعكس الأوضاع السياسية التي نعيشها، حيث نلاحظ هناك الآلاف من الضحايا يكونون ضحايا القمع السياسي، وبالتالي فقد ظلت شخصية وصال في المسرح غير قادرة على الوصول إلى الجسر الذي ظل الجندي المهزوم يحاول اقتحامه، وفي كل مرة يفشل!...ربما ذلك لتنافر المواقف السياسية وعدم وجود توحد في الآراء لذا جاءت الهزائم تترى، وانتهت بسقوط القمر في قعر البئر!