Wednesday, June 22, 2011

عرض مسرحية حراس المدينة

في رائعة (حراس المدينة) للكاتب المسرحي المغربي " المسكين الصغير" ، نجد  هناك  تنديدا واضحا بكل أشكال السلطة القمعية التي تمارس القوة والضغط غير المباشر على رعاياها وانتهاك حقوقهم المدنية، قدم هذا العرض المخرج التونسي "منجي بن إبراهيم" بأسلوب تعبيري  مسرحي، يعج بالظلم والمعاناة الإنسانية، ويبتعد عن الخطاب السياسي المباشر، وذلك ضمن العروض المسرحية التي قدمت في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي خلال دورته العشرين هذا العام.

 ويقوم عرض مسرحية ( حراس المدينة)  باستقراء ماضي وحاضر الأمة العربية والإسلامية  منذ العصر الجاهلي حتى العصر الحديث، ويركز على المعاناة الإنسانية كموضوع رئيسي يطرح نفسه بقوة من خلال مجموعة من  التساؤلات حول الواقع السياسي المعاصر، مثل: من هم حراس المدينة؟ وما هذه المدينة التي تحيط بها مجموعة التابوهات الممنوعة؟ وما رموز السلطة فيها؟ وهل السلطة في تلك المدينة شيء مادي ملموس أم أنها مجرد (فزاعة) جوفاء يعلق الآخرون أخطاءهم عليها ؟ ... وهذا ما دفع المشاهد إلى التساؤل هل هناك  بالفعل سلطة أم أنها مجموعة من الأنظمة المتوارثة تحمل التاريخ قسوة ما يحصل في عالمنا العربي والإسلامي.  كما أن مفهوم الديمقراطية حقيقة أم أنه مجرد شعارات جوفاء لا أكثر؟ ...هكذا تباينت ردود الأفعال حول أين يكمن السر وراء ضعف الأنظمة العربية؟

ولقد حمّلت تلك التساؤلات العرض الكثير من الاسقاطات السياسية غير المباشرة، وجعلته يقترب من  المحظورات بشفافية فنية من خلال عناصر العرض الرئيسية، مثل: "الشباك" التي  كانت تحيط بالمدينة، والتي رسمها  المخرج  لتشكل لغزا محيرا، بالإضافة إلى ( الفزاعة) التي تعتبر  رمزا للخوف والفزع والسلطة  لدى  الناس.

فضلا عن ذلك، فقد حرص عرض مسرحية (حراس المدينة) على سبر الفترات الزمنية المتباينة عبر التاريخ، من خلال  قيام الممثل الواحد بتقمص أكثر من شخصية، مع تحميل النص الكثير من الإحالات حول  التحديات الاقتصادية والمصالح والتكتلات الكبرى التي تحكم العالم، وذلك  في ضوء تقسيمه إلى شعوب متقدمة وشعوب نامية، لذا أصبح التحدي الذي يواجه المواطن العربي، أعظم بكثير مما نتخيله!... وفي الوقت ذاته، أن كثرة الإحالات التي  انبثقت من ثنايا النص الدرامي، جعلته  عرضة للإطالة والتنقل من مرحلة زمنية إلى أخرى، ومن قضية إلى أخرى، وهذا بدوره أثر في زيادة مدة العرض إلى أكثر من ساعة!

الشخصيات في العرض ما هي إلا تجسيد واضح لفكرته الرئيسية، وهناك ميل واضح في توجه الكاتب  نحو غلبة الحدث الدرامي على الشخصية، لكون الشخصيات ما هي إلا رموزا تعبيرية قادها المخرج لتأكيد الفكرة الأساسية فيه..فمنذ البداية نجد (جمجمة) تمثل رمزا للسلطة العمياء  ضد (قرمط) الرافض للقمع والذي ينادي بالتحرر على مدار التاريخ. كما  نجد  شخصية(قرمط) في عدة صور مثل  في شخصية " الجارية شهر زاد" و" تأبط شرا" و" المهرج"  ... بالإضافة إلى الشخصيات الثانوية مثل شخصية  القاضي.. وذلك في محاولة  لاستخراج رموز وأعلام  من التراث والتاريخ التي تجسد حقبا مظلمة في التاريخ العربي، وتفتقد إلى العدالة وتجنح إلى الظلم.

 أما بالنسبة لعناصر  " السينوغرافيا" فقد حرص المخرج على نسج مكوناتها بنفسه، بغية رسم رؤية إخراجية متكاملة للعرض المسرحي المقدم،  كما  سعى للنبش  في أغوار النص المسرحي، والذي يحمل أبعادا مختلفة ذا دلالات على مستوى الحدث والشخصيات. وبالرغم من اتساع خشبة مسرح السلام الذي  قدم العرض عليه بالقاهرة، إلا أن المخرج صمم الديكور بطريقة تنم عن حصار الحراس للمدينة، حيث غرست مجموعة من الشباك في  قعر المسرح، بينما وضعت في الجانب الأيمن (الفزاعة)، والتي كان الناس يقدسونها بالرغم من أنهم يعلمون أنها  مجرد فزاعة لا أكثر!...كما ظهر الشطرنج في بداية المسرحية كإشارة أولى لتدشين لعبة العرض بين السلطة والناس من خلال اختيار نماذج تاريخية منتقاة عبر حقب زمنية متفاوتة.

بالنسبة للإضاءة جاءت موازية في تدفقها  لمجريات الحدث الدرامي، حيث نفذت بطريقة تكشف عن لحظات القوة والضعف لدى الشخصيات، كما تتلاءم مع ذاتية الشخصيات وتكشف عن تركيبتها  الإنسانية عن طريق التمسرح والانتقال من دور إلى آخر.. كما توافق ذلك مع  الموسيقى التأثيرية العامة للعرض المسرحي، والتي استبعدت الموسيقى  التسجيلية، وقامت بتوظيف (المكساج) لعدة أجزاء من مقطوعات مختلفة.

وفيما يتعلق بالأداء التمثيلي للشخصيات فقد اتسم الممثلان الطيب الواسيني في دور (جمجمة) وياسين في دور ( قرمط)، برشاقة الأداء وخفة الحركة على الركح، حيث نجد هناك اتساقا فيزيائيا للأبعاد الجسمية للشخصيتين. وقام الفنان الطيب بتقمص أكثر من شخصية، حيث قام بدور " شهريار" و "شاهبندر التجار" ..وبذلك استطاع أن  يجمع بين شخصيات متعددة عبر حقب تاريخية متباينة ظهرت في عدة أدوار. كما  أن تفاعل الممثل مع تلك الشخصيات يدل على اطلاعه الواسع على الحقب التاريخية التي عاشت فيها. ومن ناحية أخرى، أن ذلك  الأداء المتميز للفنان  الواسيني يوازي ما قام به الفنان (ياسين العبدلي) والذي تقمص عدة شخصيات، حيث قام بدور الشخصية الرافضة للقمع والمنادية بالتحرر على مدار التاريخ  مثل شخصية "الجارية شهر زاد" و" تأبط شرا" و" المهرج"   و " قرمط "... بالإضافة إلى قيامه  بعدد من الأدوار  الثانوية مثل "القاضي"  وذلك من خلال الارتداد العكسي "الفلاش باك" ومحاولة استنطاق التراث ومساءلته.

هكذا يظل  العرض المسرحي (حراس المدينة)  للفرقة القومية التونسية، يعزف على وتر  المعاناة الإنسانية والعربية، ويقرأ التاريخ عن بعد، بغية تفسير الحاضر وفك العديد من الترسبات السياسية والاقتصادية التي أصبحت تحكم العالم، نتيجة تفشي مجموعة من القيم التي تفتقد إلى الموضوعية وتديرها مجموعة من المصالح الذاتية.

No comments:

Post a Comment