Wednesday, June 22, 2011

تحت الصفر..يجمد انتباه الجمهور لمدة ساعة

أصر عرض مسرحية "تحت الصفر"  أن يجمد انتباه المشاهد ساعة من الزمن قضاها الجمهور  في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته العشرين، وهذا  العرض  من تأليف ثابت الليثي وإخراج عماد محمد، وهو مخرج في الفرقة القومية للتمثيل بالعراق.
  وعلى الرغم من قتامة المواقف الدرامية الساخنة التي فجرها النص الدرامي في عرض مسرحية " تحت الصفر" ذات الفصل الواحد، إلا أن العرض تضمن ومضات كوميدية خفيفة، استطاعت أن ترسم الابتسامة على وجه المشاهدين. وهذا المزج  الفني البديع، ساعد  المخرج على استقراء واقع الشارع العراقي المؤلم  بعد أحداث 2003م. حيث  قام بتكثيف  لغة العرض المسرحي، لتحكي لنا صورا حية عن الإرهاب والدماء والدبابات والدوريات، إلى جانب التعرض لأشد القضايا تأثيرا على الرأي العالمي، ألا وهي مأساة "سجن أبو غريب" ...مما كان له الأثر الفاعل في رفد المتلقي  بكم  من المشاهد المؤلمة، نتيجة سخونة الأحداث.. وهذا  ما جعل العرض يتسم بغلبة "الكوميديا  السوداء" التي تضحك الإنسان على واقعه "المبكي المضحك" في آن واحد، ليتماثل في ذلك مع  مقولة: " إن شر البرية ما  يضحك".
ولقد اشتغل المخرج  "عماد  محمد" على فكرة "اللامعقول أو العبث"  في هذا العرض المسرحي، مثلما فعل في أعماله المسرحية السابقة. ويظهر مدى تأثر هذا  العرض بالمدرسة العبثية من خلال رمزية الشخصيات، والتي بدت متباينة في ردود أفعالها تجاه القضايا  التي تصطدم بها في حياتها اليومية. وهذا يتضح خلال شخصية العجوز والشاب في هذا العرض، ففي البداية يدخل  الشاب وهو يرتدي زى لاعب كاراتيه ليبحث عن أحد يستطيع  أن يرشده  إلى المكان الذي يمكن أن يقصده، فيجد العجوز الذي سكن ذلك المكان مع بقية الجثث منذ زمن. وبعد أن لقاء الشاب بالعجوز يقدم له دعوة لقضاء ليلة حتى بزوغ شمس نهار يوم منتظر، والذي اتضح بعد ذلك بأنه لن يأتي، وهذا  جعل الشخصيتين تفتقدان إلى الأمان والاستقرار ، لتجد نفسها في النهاية تدور في  حلقة  مفرغة تنبىء بعبثية الحياة المعاصرة.

ويرمز المؤلف "ثابت الليثي" بشخصية (العجوز)  إلى ماضي العراق الحضاري، بينما  تجسد شخصية (الشاب) حاضر العراق بكل آهاته وجراحه. وهذا جعل هاتين الشخصيتين غير قادرتين على التواصل الإنساني مع العالم،  لذا ظهرت الشخصيتان مشلولتي الحركة، فهما لا تعرفان من تكونان؟ وماذا تريدان؟ و هما أيضا لا تحسان  بالزمان ولا تعرفان المكان الذي تقبعان فيه منذ زمن؟!..لنخلص في النهاية، إلى حقيقة مفادها: بأن  تلك الشخصيات تشعر بالضياع في ظل فوضى حقوق الإنسان الذي أصبحت تنتهك فيه حقوقه، كنتيجة حتمية لضـياع مبادئ العدالـة و الحرية في العالم.
وعلى الرغم من انفصال الشخصيات عن واقعها الخارجي، إلا أن المخرج ابتكر أسلوبا جديدا، استطاع أن يربط به مجريات الحدث الدرامي وتدفقه الآني على الركح،  بما  يدور في الواقع الخارجي، وذلك من خلال الشاشة السينمائية التي زرعت بالقرب من السور، فبينما  الأحداث تدور على الخشبة، يتم دمجها بالمشاهد الحية  في الشارع، والتي تصور شروق الشمس مع الصباح الباكر وانقشاع الجليد.  بعد ذلك تقوم الشخصيتان  بجولة في الشوارع وتلتقطان الصور الفوتوغرافية بجانب النصب التذكارية  الموجودة هناك. وهكذا نجد أن شريط الذكريات يتوالى ليسرد لحظات من ذاكرة شعب بأكمله عبر صور مكثفة، تتدفق من خلال الشاشة السينمائية، وبعد انتهاء تلك اللحظات تعود الشخصيات إلى واقعها المألوف حيث الركح بشجونه وهمومه.
فضلا عن ذلك، فقد رصد المخرج الواقع العراقي الآني وما فيه من مرارة، من خلال تقديمه على هيئة "فلاشات" تستعرض فكرة ما، ثم لا تلبث أن تتوارى لتظهر فكرة جديدة..وهذا التباين في الوصف المشهدي قدم الموضوع بشفافية مبسطة، على الرغم من اعتماده على "الكوميديا  السوداء" المثقلة بالأحداث المؤلمة، إلا أن الأسلوب  الفني والجمالي الذي قدمت من خلاله تلك الأحداث، كان ينبئ بعمق عن النص الدرامي.
ومن الملاحظ، أن  "السينوغرافيا"  العامة للعرض المسرحي، خدمت الفكرة الأساسية فيه،  بشكل فعلي، حيث ساهمت في التخفيف من متاهات النص المغرق بالهموم المحزنة، مما جعل المشاهد يتفاعل مع مفردات العرض المسرحي. كما تكاتفت عدة عناصر لصنع رؤية "بانورامية"  للعرض المسرحي المقدم، حيث اتسم الديكور  بأنه تجريدي ورمزي.. بالإضافة إلى أن استخدام الشاشة السينمائية بشكل عضوي يخدم البناء الفني للعمل، وهذا ساعد الشخصيات على كسر الجليد الوهمي الذي حاصرها، نتيجة انفصالها عن ماضيها، فكانت الشاشة بمثابة القناة المثلى للخروج من بؤرة العزلة وتكملة مكونات " السينوغرافيا" العامة للعرض.
وقسمت خشبة المسرح إلى قسمين هامين، الجانب الأيمن حيث كان يقبع العجوز بالقرب من المجسمات على هيئة أشباح أو هياكل عظمية غطت خشبة المسرح، لتعطى دلالات مختلفة، حيث ارتسمت لحظات من الزمن الماضي والحاضر فيها ..أما المنطقة الوسطى من الركح عبارة عن ملعب كرة القدم جمعت العجوز والشاب معا.
اتسم الأداء التمثيلي والاستعراضي بتحقيق المتعة البصرية للمشاهدين، وهذا بدوره  شكل نوعان من التوازن على الخشبة. كما أوجد "سيميترية" جمالية عالية، تنم عن مهارة فنية لدى المخرج في تحريك شخوص العرض، فبرغم فارق العمر بين الشخصيتين، حيث أن الممثل عبد الستار يبلغ من العمر ثلاثة وستين عاما، وهو ممثل مسرحي وتليفزيوني مخضرم، له  العديد  من التجارب الناضجة، في حين يمثل الفنان  الشاب المحترف (يحيى إبراهيم)  جيلا أحدث، ولكنه أيضا من الممثلين المحترفين، إلا أن المخرج في كل الأحوال بذل جهدا مضاعفا لردم الفجوة بسبب التفاوت العمري بين الممثلين، بغية البحث عن منطقة وسطى حية، يستطيع الاشتغال عليها بمرونة تامة، مما جعل هاتين الشخصيتين تتقاربان في  الأداء التمثيلي والحركي، وهذا بدوره  ساعد على ضـبط  "الميز انسين" العام على  الركح.
أما بالنسبة للمؤثرات الموسيقية فقد قلص المخرج قدر الإمكان منها ، واكتفى بإدخال بعض المؤثرات الصوتية. فضلا عن ذلك، فقد استعان بأغنية فيروز " أنا وشادي" مما أعطى العرض لمسة جمالية أخرى، قللت من الأثر المؤلم لموضوع  المسرحية، نظرا لغلبة الاتجاه التجريبي  للعرض المسرحي وحرصه على كسر المألوف.
ويمكن القول: إن عرض مسرحية " تحت الصفر" استقطب المتلقي النخبوي بالإضافة إلى الجماهير العامة، فالعرض والنص تشربا بالعديد من الاتجاهات  التجريبية التي ساعدت على جذب المشاهد بكافة شرائحه.

No comments:

Post a Comment