Wednesday, June 22, 2011

غسيل ممنوع النشر ..يتعدى الخطوط الحمراء

     تعتبر فرقة مسرح الخليج العربي من أعرق الفرق المسرحية في دولة الكويت، والتي تأسست عام 1963م، ومن أعمدتها  الفنان الراحل صقر الرشود والكاتب منقذ السريع، واللذان يعتبران من  أوائل الرواد الذين وضعوا بصمات واضحة على مسيرة هذه الفرقة، ومن أعمالها مسرحية ( يا معيريس) و ( المخلب الكبير) و ( الله يا دنيا) . ويغلب على  عروضها لونها الشعبي الاحتفالي...ولكن ماذا يحدث عندما تحاول هذه الفرقة تقديم عرض، يجمع بين الطابع الاحتفالي الشعبي وبين الأسلوب التجريبي..دعونا نتابع هذه الفرجة المسرحية من خلال  عرض مسرحية (غسيل ممنوع النشر) للمؤلف والمخرج الكويتي ناصر كرماني، والذي عرض على مدار يومين متتاليين في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته العشرين هذا العام.
     إن المتابع لعرض مسرحية (غسيل ممنوع النشر) يجده يتسم بغلبة الطابع الاحتفالي الشعبي على التجريب المسرحي، فبرغم أن تكنيك الإخراج الذي استخدمه المخرج ناصر كرماني، حاول التحليق بعيدا عن الأطر الكلاسيكية السائدة في المسرح، وتقديمها في قالب حداثي معاصر الذي بدا مشبعا بالكثير من الأبعاد الفلسفية والاجتماعية، مما جعلها تنأى عن الحدث التقليدي الدرامي، إلا هذا العرض لم يستطع الافلات من دائرة الموروث الشعبي الخليجي القائم على السرد القصصي الذي بدت نبرته عاليه ومسموعة. في حين، أنه لو تم تقليص الحوارات السردية، وتجسيدها من خلال الرؤية البصرية للعرض المسرحي، الأمر الذي كان من شأنه أن يجسد الرؤية التجريبية في العرض  بصورة أوضح.
وتتكون المسرحية من  (فصل واحد) وهي تقوم على الفرجة المسرحية، وتقمص الأدوار، حيث  نجد (المشاهد المسرحية) في تداخل مستمر مع أقدار الشخصيات، مما جعلها تشكل حلقات دائرية الشكل، متصلة بالحدث القصصي  العام، والذي أصر على نقل المشاهد من حلقة إلى أخرى، وكأننا في لعبة مسرحية أصبحت حلقاتها ممتدة لا تنتهي. ولقد تأثر العرض بالأشكال التراثية الشعبية التي كانت في الماضي موجودة في المقاهي وجلسات السمر والأعراس...حيث كان يجلس الراوي ليحكي قصة ما، ويتحلق الناس حوله . فالعرض اعتمد على الطابع الأرسطي في تدفق الحدث الدرامي، ثم تم كسر حدة ذلك الطابع عن طريق التداخل الواضح مع المدرسة البرختية، والتي تحاول صدم المشاهد بواقعه وتعرية الحدث والشخوص والإعلان عن الحقيقة المرة، بغية شحن  المشاهد، وجعله  يتعاطف مع أبطال العرض.
ويقدم العرض المسرحي  قصة (الصحفي) الذي ظلت تلاحقه عقدة التهميش والتنميط، مما جعل ماضيه الطبقي، شبحا يطارده رغم حصوله على الشهادات العلمية وتدرجه الوظيفي، إلا أنه ظل ابن الحارس (ناطور) الذي كان يعمل عند أحد  كبار التجار، لذا فهو يرث تاريخ العائلة على هذا النمط القسري المتعارف عليه، لنجده في النهاية غير قادر على الانسلاخ  عن جذوره، فهو ابن فقير ولا يرقى إلى فئة متخذي القرار!.. لذا فهو نتاج طبيعي للفصل الطبقي الذي هو تفاعل عدة حلقات قائمة على الفصل العنصري والفصل الجنسي الذكوري، لذا فالمشاهد يعايش منظومة اجتماعية طبقية متعددة الأوجه .
وتبدو بداية هذا العرض فنتازية في مشهديتها، وذلك من خلال التصوير المشهدي للصحفي وهو يقوم   بغسل  ملابسه، والتي سرعان ما تتحول إلى شخصيات وهمية تتحدث معه من خلال مشاهد درامية (كاريكاتورية)، تنتقد الواقع الذي ألفه منذ زمن، وهذا جعلها تتسم بسخرية لاذعة! ... مما جعل هذه الشخصيات في ملامحها العامة أقرب إلى (فن الكاريكاتير) الذي يسعى إلى تضخيم العيوب وتشويهها بطريقة ذكية، تنم عن موهبة فذة لدى (المؤلف المخرج) من خلال قدرته على التقاط مثالب المجتمع والسخرية من الأنظمة السياسية والاجتماعية البالية، وبذلك استطاع المخرج أن يفبرك القصة بطريقة فرجوية، محولا إياها من هم فردي إلى هم جماعي تتسع حلقاته الحدثية فيما بعد. وذلك عندما تنتقل من حالة مشهدية إلى أخرى، ومن احتفالية إلى أخرى، فالممثلون هم  يصنعون الزمان والمكان على الخشبة.

كما أصر عرض مسرحية (غسيل ممنوع النشر) على تجاوز الخطوط الحمراء في النشر والنبش عن الذات المطحونة ضمن الأنظمة الطبقية التي رسمها المجتمع الارستقراطي،  وكان ضحيتها  البسطاء من الناس !.كما تبرز التورية الجمالية  من خلال عنوان العرض، وذلك من خلال المزاوجة بين اللفظين: المعنى البسيط، وهو "غسيل الملابس" ..أما عندما نقول "غسيل ممنوع النشر" حسب لغة العرض والشائع: فتعني الكشف عن المحظور المؤلم !...والذي جسدته المسرحية من خلال معاناة الصحفي المقهور من المجتمع،  من قبل واقعه المهني المحظور من النشر، إلا بأمر من رئيس التحرير! وفي ظل هيستيريا الواقع الاجتماعي والمهنية تلك،  بدأت تتسرب إلى الشخصيات، أفكار ممنوعة من النشر، لذا فهي تصطدم بذلك الواقع، مما يجعلها تشعر بالإحباط، فهي غير قادرة  على التعبير عن آرائها ومعتقداتها وأفكارها حول الحالة غير العادلة لقوى العلاقات الاجتماعية والطبقية في المجتمع الذي يعيش فيه،  لتغدو هلوسات تعيش في صراع معها اثناء يقظتها، وهكذا فإن العرض استطاع الغوص  في أعماق شخوصه،  باحثا عن ذواتها المنكسرة من خلال المزاوجة الواضحة بين عالم الحلم واليقظة والحاضر.
ومن جانب آخر، تم إقصاء الديكور المسرحي، والاعتماد على الايهام الفني، مما جعله أقرب إلى المسرح الرمزي التعبيري الذي يقوم على تجريد خشبة المسرح، لكيلا لا يلهي المشاهد لما يدور حوله... وهذا بدوره  ساعد على إحكام الخط الوهمي للعرض المسرحي، والاعتماد على جسد الممثل كلاعب أساسي فيه. كما أن  التتابع المرحلي لتوصيف المشهدية المسرحية من مرحلة إلى أخرى لدى أبطال العرض، جعل المشاهد متشوقا لمعرفة بقية الأحداث.
وهذا بدوره أظهر مدى مقدرة المخرج على إحكام البناء الدرامي للعمل المقدم، واستمرارية الإيهام الفني الذي يقوم على التناقض، وعلى صدم المشاهد بمرارته الذي بدا مثل الكابوس الذي ظل يلاحق شخصيات العرض، مما جعلها سريعة التحول والتمرد على واقعها المصيري، ولكنها لا تلبث أن تعود كما هي من النقطة التي انطلقت منها .
وتشكلت  السينوغرافيا لعرض مسرحية ( غسيل ممنوع النشر)  من خلال مساحات التجريب على مستوى الفضاء المسرحي والتعبير الحركي وأداء الممثلين، لذا فإن المسرحية بدت رمزية تجريدية تسعى للالتفاف حول الفعل الدرامي، بغية تجسيده من خلال الدلالات الصورية، بدءا من الملابس التي رسمت الشخصيات في إطار كاركاتيري عال السخرية، وذلك من خلال تصويرها على أنها مجرد ملابس أو غسيل يتم نشره على الأسطح . والذي ساعد على تجسيد ذلك، ارتداء الشخصيات ملابس سوداء عليها سيور مقطعة، كأنها قصاصات جرائد حددت معالم الشخصيات.. أما فيما  يتعلق  بقطع الإكسسوارات المستخدمة في العرض، فهي أيضا محدودة ولا تتجاوز المقشة والباروكة والنظارة والبشت والمعطف، ويبقى على الشخوص أن تثبت شرعية استخدامها أو لا ..أما بالنسبة لأداء الممثلين فقد تم استغلال جسد الممثل بطريقة عملية تبرهن على أن الممثل الجيد، هو من يعتمد على قدراته التعبيرية، حتى ولو وجد نفسه وحيدا على خشبة مسرح عارية لا يوجد فيها سوى ستارة سوداء . بينما أكدت المؤثرات الموسيقية انتماءها للمسرح الخليجي، بالرغم من أنه يتناول قضية تكاد تكون عالمية، إلا أن الموسيقى التصويرية المستوحاة من التراث الشعبي، جعلتنا نعايش إجواء الفلكلور الشعبي الخليجي. بالإضافة إلى مفردات العرض  الأخرى.

 

No comments:

Post a Comment