Wednesday, June 22, 2011

المبدع ..ومقص الرقابة


     كثيرا ما يقرن الحديث عن الرقابة وقيودها المتعددة بالرقيب ومقصه القسري الذي يقتحم عالم أصحاب الرأي والقلم والعاملين في الحقول المعرفية والمبدعين في مجالات الفنون والأجناس الأدبية، بغية تأطيرها في قالب ثابت يتوافق مع أيديولوجية الأنظمة السائدة. وتتكون الأجهزة الرقابية على الأغلب من لجان تتبع عدة جهات حكومية، وهى تقوم بمراقبة المصنفات الأدبية والفنية. كما أنها قد تستند على مجموعة من القوانين الثابتة مثل قانون المطبوعات والنشر وسياسات الإعلام التي تعكس هى الأخرى سياسات كل دولة وتنطق بحال واقع الحرية المتاحة فيها. وفي عصرنا  الحالي، استحدثت الرقابة برامج جديدة  لتنظيم  وفلترة  المواد  غير المألوفة،  لتتناسب  هى الأخرى مع تقنيات النشر ووسائل العرض الحديثة، فلا  يتم ذكر المعنى التقليدي للرقابة، ولكن تستخدم مصطلحات أخرى أخف وطأة على الأذن!. إلا أن معظم الأنظمة الرقابية تتكئ على (التابوه ) الثلاثي (الدين والسياسة والجنس) ، والتي تتفاوت نسبتها من قطر إلى آخر، لتشكل في النهاية مجموعة من الخطوط  الحمراء التي لا يمكن تجاوزها!.

ولكن قد يتساءل البعض ما الأشكال الرقابية التي قد تواجه المشتغلين في الحقول الإبداعية في عصرنا الحالي؟ وما مدى  سطوة تلك الأشكال في إحكام القبضة على المنتج الفكري؟ وهل وسائل التكنولوجيا الحديثة ساعدت على الإفلات من قبضة أجهزة الرقابة؟ وأخيرا، هل الرقابة هى السبب الرئيسي في إخفاق المبدع العصرى لإنجاز أعمال إبداعية أم أن هناك مسببات أخرى، ساعدت على إجهاض ذلك الإبداع ؟! .

     مما لا جدال فيه، أن قضية الرقابة في وقتنا الحالي تبدو مشوشة إلى أبعد الحدود، حيث يدعي بعض المفكرين بأن الرقابة هي ذلك السقف العالي الذي أصبح يطاول السحب، ليحول دون وصول كمية الهواء اللازمة للتنفس الإبداعي لديه، وبالتالي فالعملية الإبداعية تجهض قبل أن ترى النور عبر القنوات المتاحة والمسموح بها. وهذا يؤكد الحقيقة التي تقول إن الرقابة والإبداع ندان لا يتفقان، فالمبدع دائما يلقي  باللائمة على أجهزة الرقابة، لأنها عمدت إلى  تكبيل أدواته وإمكانياته، إضافة إلى أنها عملت على تشويه مضمون العمل الإبداعي و تحويله إلى عمل فج، مما يقلل من  قيمته الفكرية والفنية. وهذا بدوره سيعكر صفو القارئ، إن لم يسيء إليه! .

  وفي نفس الوقت، يفترض من المبدع (الأديب، الفنان، الكاتب)  أن يجيد أساليب التحايل على الرقابة مهما كانت أشكالها والتحديات التي تفرضها عليه،  فإنه  يستطيع الإفلات منها عن طريق استخدام الاستعارات اللفظية والصور البلاغية الأخرى، كما هو الحال في الاجناس الأدبية التي يختلط فيها الواقع بالخيال. بالرغم من تفاوت معدلات الحرية في الوطن العربي عبر التاريخ، إلا أنه شهد رموزا أستطاعوا أن يتحفوا العالم بإبداعاتهم، ولم تكن قضية الحرية ذات بال، فروح المبدع استطاعت أن تتجاوزها وتنجز الكثير والكثير.  

      هذا فيما يتعلق بالنشر الورقي المكتوب، ولكن ماذا عن النشر الالكتروني الحديث الذي كثيرا ما يعتبره أصحاب الرأي، بأنه النافذة التي يمكن أن يطل من خلالها المبدع دون أن تطاله أذرع الرقابة التقليدية، خاصة  في ضوء التزايد المطرد للمواقع الشخصية للكتاب والهواة وظهور المدونات التي تعتبر من أحدث أشكال النشر الالكتروني الحر. فضلا عن ذلك، تقوم الشركات العالمية التي تدير المواقع الالكترونية بشكل مستمر باستقطاب أكبر عدد من المستخدمين لبرامجها دون الاهتمام بطبيعة المحتوى المدخل. ولقد ساعد ذلك الانفلات الالكتروني على افتراض أن زمن الرموز والغموض قد ولى بلا رجعة، حيث يتسم هذا العصر بالانفتاح (المعلوماتي) الذي لا يقاوم!. والذي  أصبح  لا يقبل التأويل والرؤى الضبابية في تفسير الأشياء، فهناك العديد من المواضيع التي يتم كشف النقاب عنها، سواء أكان عن  طريق البرامج التي تتطلب إبداء الرأي أو المشاركة عن طريق الدخول إلى  المنتديات المفتوحة، بعيدا عن سقف الحرية المحدود .

     إلا أنه مع هذا الانفتاح الالكتروني، بدأت تظهر أشكال رقابية أخرى جديدة من خلال الوسيلة الالكترونية نفسها!. بهدف إحكام القبضة أيضا على ما يبث أو ينشر عبر نوافذها المفتوحة، وتتخذ تلك الأشكال مسميات أخرى مثل جهاز التنقية والفلترة. ونتيجة لذلك أصبحت هذه الشبكات الالكترونية تتحكم في خدمات المشتركين، تحت بند سياسات الشبكة وحمايتها من المتطفلين الجدد. ولعل المثال الأبرز على الرقابة الالكترونية، هو قيام  شركة (جوجل) في الصين بإطلاق جهاز بحث إلكتروني ذاتي الرقابة، يقصد به محاصرة شركات الإنترنت العالمية، نتيجة الضغط الذي تمارسه الحكومة الصينية عليها. وتعمل هذه الخدمة على وضع ضوابط  تحد من حرية التعبير وحرية المعلومات لمشتركي الإنترنت الصينيين و تقليص الانفتاح الإعلامي الذي تعاني منه الدول الأخرى.

    وهكذا بدلا من أن تستمر تلك المواقع في احتضان النتاجات الفكرية والأدبية، أيا كانت توجهاتها وتياراتها، فإنها سرعان ما أصبحت تخضع لمقص الرقيب الالكتروني الذي صنع خصيصا لمواكبة من تسول له نفسه الخروج عن المتعارف عليه!! ...في حين أن ذلك التوجه نحو تقليص مساحات الحرية المتاحة، لقي  ترحيبا  من قبل  فئات المجتمع المحافظة، التي ترى بأنها ليست ملزمة على تقبل رأي الآخر، والذي قد لا يتناسب مع ثقافة الناس أو التوجهات الدينية  لديها، لذا فإن مقص الرقيب الالكتروني هو الحل الأمثل! عليه كان لابد أن نبحث هذه المرة ليس عن طرق أخرى للتصالح مع رموز الرقابة التقليدية ولكن مع الأنظمة الالكترونية العالمية!.  




    ومن ناحية أخرى، لابد من الاشارة أيضا إلى الرقابة على الفنون والمواد (الفيلمية) التي  تعتبر من أعقد أنواع الرقابة. فمثلا في الأفلام السينمائية عادة ما تخضع لمقص الرقيب الذي أصبح لا مفر منه. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، عندما عرض فيلم (الإغراء الأخير للمسيح) للمخرج الأمريكي الشهير (مارتن سكورسيزي)، تشكلت ضده جبهة من الرأي العام مكونة من جماعات الضغط الديني من جانب الكنيسة الكاثوليكية. وتطور ذلك النزاع إلى الهجوم على دور العرض وإحراقها والاعتداء على الممثلين. وهذا  يجعلنا ندرك بأن هناك رقابة أخرى، يمكن أن تولد من رحم المجتمع والتيارات الدينية، يمكن أن تشكل ثورة عارمة يصعب السيطرة عليها حتى في أكثر الدول تحضرا ودمقطرة!!.
   
     وتبقى جدلية الرقابة وعلاقتها بالمبدع قائمة وتأخذ منحنيات متفرقة، منها ما يتعلق بالأنظمة التي تتبناها هذه الأجهزة والتي تحتاج إلى إعادة نظر للتكيف مع المتغيرات السياسية والاجتماعية المستجدة، وذلك بالعمل المستمر لردم الهوة بين المبدع والرقيب. مما سيكون له الأثر الايجابي في كسر الحاجز الوهمي المفزع تجاه أجهزة الرقابة وسلطاتها. وسيوجد نوعا من المصالحة بين الرقيب والمنجز الفكري!. ومنها ما يتعلق بالمبدع نفسه الذي يفترض ألا يفكر في الرقابة بشكل مبالغ فيه مما سيعطل قدراته، وعليه السعي حثيثا نحو تقديم عمله دون أن يضع مقص الرقيب في ذهنه، وأن يتحكم في حريته الابداعية، فليس كل ما يدور في ذهنه يصلح للكتابة والبوح المباشر. كما أن عليه أن يكبح فكره وانفعاله في كتاباته، نظرا لتأثيرها السريع على آراء وتوجهات القراء والمشاهدين. وفي الوقت ذاته، يحاول استغلال مساحة الحرية المتاحة له لإنتاج أعمال إبداعية تستحق أن تخلد. فعالمنا اليوم، أصبح يعاني أفلاسا حقيقيا من المنجز الفكري الأصيل وذلك لخلوه من العمالقة والرواد وما نراه ونسمعه أصبح مجرد ظلال لهم ! وبدأت صيغ الإبداع الفكري تتلاشى أن لم تكن قد انعدمت!.



No comments:

Post a Comment