Friday, July 1, 2011

قرموشة....والبراقع

    عندما يسعى  المسرح إلى  النبش في الذاكرة الجماعية  للشعوب، فإنه يكون معبرًا عن حكاياته التراثية والإنسانية التي تستحوذ على أكبر قدر من  اهتمام  الناس...ولقد حاول عرض مسرحية ( قرموشة) التشبث بالبراقع، على اعتبار أنها الوسيط الذي يجعلها تكشف المحظور الذي طوته السنين، والذي أصبح الحديث عنه من النوافل التي يجب التخلص منها. وهذا العرض من إنتاج مسرح دبي الأهلي، وهو من  تأليف عبدالله صالح وإخراج أحمد الأنصاري.
  سعى عرض (قرموشة) إلى إبراز مواطن  الرؤية البصرية  من خلال  استغلال الفضاء المسرحي بغية رسم لوحة جمالية مستوحاة من التراث الخليجي الأصيل ، حيث ظهرت (قرموشة) وهي تحيك (البراقع) - التي من وجهة نظرها-  لم تفقد رونقها حتى في  عصر الموضة والتقليعات الحديثة.
    الجميل في العرض أنه استطاع أن ينقلنا من قصة البراقع البسيطة التي دأبت (قرموشة) على حياكتها منذ زمن إلى معايشة قصة حياتها الشخصية الذي أصبح مثارًا للجدل،  خاصة بعد ظهور شخصية (بو حناو)  الذي كان  بدأ يتردد علي منزلها،  بعد أن  هجرها منذ ثلاثين عاما مضت، نزولا عند رغبة العائلة، التي كانت تخضع لمنظومة الأطر الاجتماعية والاقتصادية.
 وبرزت (البراقع) كعامل أساسي  لتخطي المراحل  الزمنية، حيث نجحت في  نقل المشاهدين إلى ( زمان أول) ... عندما كانت تصنع(قرموشة)  البراقع للنساء والفتيات ، إلا أن المؤلف استطاع أن يحدث نوعًا من التوازن بين الفترتين، بغية رصد المسافة الزمنية، فهو لم يقطع الصلة بالحاضر مع  الاتكاء علي الماضي.

وتقوم (منيرة) ابنة (قرموشة)  بتذكير والدتها، بأن الزمن قد تغير، لذا عليها أن تطوي صفحة الماضي المشحون بالإشجان والقصص المؤلمة التي اختبأت وراء ستار البراقع، وأن تبدأ صفحة جديدة تتناسب مع حاضرها.
   حرص مؤلف العرض(عبدالله صالح) على تعرية شخصياته والكشف عن أبعادها، ولم يقتصر ذلك على الشخصية المحورية، ولكنه سعى إلى أماطة اللثام عن بقية الشخصيات تدريجيا، فعلى سبيل المثال شخصية (منيرة) ابنة قرموشة، التمست من واقع والدتها مبررًا لتسرد تفاصيل حياتها من خلال  الكشف عن الأبعاد التراجيدية لحياتها الاجتماعية، حيث اتضح أن  جميع من  تقدم  لخطبتها،  أما أن  يفر هربًا أو أن يموت فهي (منحوسة) حسب عرف المجتمع  .
وبذلك يتضح إن مصير الابنة  في هذا العرض مقرون بماضي  الأم، التي عانت كثيرا  في مراحل حياتها المبكرة، في الوقت الذي كانت (البراقع)  السلوان، فيما تبقى لها من ذكريات حالمة، تربطها بالزمن الجميل الذي ذهب وولى بلا رجعه .
  ولقد عكس عرض (قرموشة)  العادات القيم والمعاني الأصيلة التي تذكر الإنسان الخليجي بعصر ما قبل النفط، والتي بدأ الناس يفقدونها بسبب التمدن والعولمة الثقافية، ولم يتضمن العرض صراعًا تقليديًَا، ولكنه تضمن جدلا  اجتماعيًّا حادًا حول القيم والأخلاقيات المتوارثة  التي اقتنصها المؤلف من قعر المجتمع الإماراتي، وأراد أن يرسم من خلالها واقع  شخوصه وفق تصور معين حدده مسبقًا. فيما كان الحوار سرديًّا، مكتوبًا بلغة شاعرية، اقتربت في بيانها اللغوي من خلجات الذات لرموزه  التي كانت تعيش معاناة الواقع والماضي.

برزت جماليات "السينوغرافيا"  في العرض من خلال استغلال مساحات الضوء والإظلام في الخشبة، حيث ركز المخرج(الأنصاري) على الممثل والفضاء المسرحي على اعتبار أنهما عنصرين مهمين في العرض، في حين أهمل الديكور،  حيث  جردت  الخشبة من الديكور العام واكتفى المخرج بوضع مستوى مرتفع على الجانب الأيسر من  خشبة المسرح. كما ظهر في العرض صندوقين أقرب إلى (المندوس) الذي هو  عبارة عن خزانة، كانت النساء في الماضي تحتفظ فيه بمقتنياتها الثمينة...في حين  كان ( المندوس) في حياة ( قرموشة) ذا معنى عميق، فهو ذو دلالة ثقافية ومعنوية تربطها بأيام الشباب بما فيه من قصص وأحلام لا تنتهي.

    وعلى مستوى الأداء التمثيلي فقد بشر العرض بوجود طاقات تعبيرية، ساهمت جميعها  في  إبراز الحدث المسرحي، حيث استطاعت الفنانة (بدرية أحمد) أن ترسم صورة المرأة الخليجية التي تتصف بخصال عديدة، منها: التلقائية والالتفاف حول العادات والتقاليد العريقة، فيما كانت الشخصيتان الأخيرتان تنيران لها الدرب في سرد ما تبقى من تفاصيل حياتها، حيث  قام الفنان بلال عبدالله بدور (بو حناو)، فيما أدت الفنانة (بدور) دور الابنة منيرة، والتي كانت تطالب الأم بالتوقف عن صناعة ( البراقع)  معللة ذلك،  بأن زمن البراقع انتهى! .. وأنها لابد أن تعيش الحاضر بكل تفاصيله المفرحة والمحزنة..
جميع ذلك أكد أن عرض (قرموشة) تضمن صراعا فكريَاٍّ وثقافيَّا واجتماعيًّا...إضافة إلى  أنه تعرض لفتراتٍ زمنيةٍ مختلفة عايشتها الشعوب الخليجية، وأثر ذلك على اختلال  المنظومة الاجتماعية لدى  الأجيال المتعاقبة.

No comments:

Post a Comment