Wednesday, July 27, 2011

عندما يكون " الوقار" عيبًا!

من المثير أن نتابع عرضًا يكشف العلاقات الاجتماعية في المجتمع الخليجي من خلال  تسليط الضوء على  عقوق  الأبناء وتنكرهم  من مسؤولية الاهتمام بوالديهم في كبرهما، ثم يأتي "الحفيد" ليقوم بأداء الواجب الذي تجاهله "الأب" نحو والديه!.. هذا ما حصل في العرض الإماراتي(عار الوقار) لفرقة مسرح دبا الحصن بالتعاون مع مجموعة مسارح الشارقة، وهو من تأليف وإخراج الفنان عبدالله زيد.

طرح عرض مسرحية (عار الوقار) الإماراتي قضية اجتماعية غاية في الأهمية من خلال سرد قصة الابن العائق لأبيه، في حين كان الحفيد بارًا بجده، عكس أبيه الذي ألهته مشاغل الحياة!...واستطاع المؤلف والمخرج عبد الله زيد أن يوظف هذه المفارقة في ثنايا العرض المسرحي، الذي انتقد بعض الأوضاع التي تعيشها الأسرة الخليجية في ضوء المتغيرات المعاصرة، بغية تعريف المشاهد بحقيقة ما يدور حوله من متغيرات أثرت على الفرد والمجتمع، نتيجة الطفرة البترولية عقب السبعينيات القرن المنصرم.

حرص المخرج زيد على تطويق العرض بروح الواقع الخليجي، وجعل شخصية "الجد"  التي تمثل الماضي، تعيش في منزل (أثري قديم) رصد في أدق تفاصيله ذكرياته وآهاته وأحلامه التي ضاعت بموت زوجته، وخروج أبنائه بعد زواجهم واستقلالهم بعيدا عنه. ونتيجة لذلك، عاش الأب الكبير السن المشلول صراعًا مع العزلة القسرية التي فرضت عليه، ولم يجد من يؤنسه سوى الاستماع إلى المذياع، الذي  كان بمثابة قناة الاتصال ما  يدور حوله، لذا نجده يخاطب الجدران كما لا يجد حرجًا في التحدث مع نفسه!

وهذا ما  جعل "الجدران"  في هذا العرض بمثابة الحاجز الذي رسمه المخرج والمؤلف، بغية محاصرة  شخصيتي "الجد ،الحفيد"  ضمن نطاق زماني ومكاني واحد....وهذا أكد فكرة أن التطور الذي لحق بالمجتمعات الخليجية، كان سببًا في إيجاد  فجوة حقيقية، حالت دون التواصل بين الأجيال المختلفة.

أن المتابع  لسيمياء العرض(عار الوقار) بما فيها من كلمات وصور وأصوات وإيماءات وأشياء مادية ظاهرة على الركح، يدرك بأنه أمام عرض يتضمن أيقونات ودلالات ثرية، جعلت من موضوعه مثارًا للجدل والنقاش...فمنذ البداية يظهر "الديكور" التراثي المستوحى من البيئة المحلية؛ ويمكن أن نلمس ذلك من خلال الحصير، الوسادة، المروحة اليدوية والفراش ...كما أن العرض لم يغفل "البيئة الساحلية" التي غالبًا ما تؤطر الأعمال الدرامية الخليجية، والتي تشكل البيئة الأصيلة التي لازمت الإنسان في حله وترحاله، فنجد هناك شباك الصيد"الليخ" التي كانت يستخدمها "الجد" في رحلاته البحرية، والتي حملت معها ذكريات الإبحار والصبا والأصحاب الذين فقدهم الجد واحد تلو الآخر.

واستطاع الفنان عبدالله زيد الذي قام بدور الجد أن يشعرنا بواقع الأب الأليم الذي خذله أبنائه، ويشاء القدر أن يجمعه بأحد أحفاده بعد ذلك، وقام بدور الحفيد الفنان الصغير أحمد الجرن ، الذي كان يتمتع بموهبة استثنائية، جعلت المتابعين للعرض ينبهرون  بقدراته التي يمتلكها، والتي جعلته في مصاف الفنانين المحترفين، وهو لا يزال طفلا صغيرًا  لم يتجاوز عشر سنين!

كما أصر مؤلف ومخرج العمل على تضخيم معاناة الشخصيات وجعل الجمهور يتعاطف معها، وخاصة عندما جعل (الجد ،الابن ) يكونان رهيني المحبسين؛ الجدران والتفكك الأسري وعقوق الوالدين...وفي البداية يكون الحصار  على الشخصيتين نفسيًّا ، حيث يشعر الجد بأنه سجين الجدران فلا احد يذكره، بينما الابن يشعر بنفس الإحساس  فوالده مشغول جدًا وغائب عنه معظم الوقت، رغم أنه لم يقصر ماديًّا معه.

     برزت "الرؤية الإخراجية"  للمخرج المؤلف في أكثر من موقف درامي، مما جعل المشاهد يشعر بأن منزل الجد عبارة عن "معمل مسرحي" اشتغل المخرج فيه على حلقات ودوائر متعددة منها على مستوى الحدث الدرامي الذي كان يصدم المشاهد بحقيقة  ما يدور  حوله من أحداث خارجية. ومنها على  مستوى الصراع فقد كان عبارة عن صراع فكري وقيمي(أيديولوجي)، أكد  فكرة بهتان وضياع القيم الأصيلة التي كان يتمتع المجتمع الخليجي  فيها، والتي قاربت على الاندثار!

 أما على مستوى التمثيل، فقد استطاع  الطفل الموهبة أحمد  الجرن أن يفرض حضورًا ارتقى بمستوى العرض المقدم، ولم يفلت الإيقاع العام منه رغم صغر سنه...كذلك برزت مقدرة المخرج زيد في تقسيم خشبة المسرح إلى عدة مستويات؛ المستوى الأيمن، حيث الجد في وضعه الواقعي ولقائه بالحفيد في بداية العرض، واتسام الحدث  بنوع من الكوميديا الخفيفة التي تدرجت عبر الفصول المتعاقبة، لتصبح  بسبب الأحداث المبكية المضحكة في النهاية قاتمة  أقرب إلى الكوميديا السوداء.... فيما شكل الجانب الأيسر في بدايته "الماضي" الذي ينقلنا إلى عالم شباك الصيد والسفن والصيادين، وكل ما يتعلق بذكريات الجد القديمة التي تربطه بأيام الصبا...فيما شكل أقصى اليسار من خشبة المسرح، حصارًا حقيقيًّا حد من حرية الشخصيات من خلال "الباب" الذي ظل موصدًا طيلة العرض، نتيجة ضياع المفاتيح، التي ضاعت معها  أحلام العجوز والطفل...حيث كان الجميع ينتظر الخلاص....ولكن ساعة الزمن أعلنت انتهاء عمر الجد، بينما حفيده لم  يستطع مساعدته في ظل غياب الأب وانشغاله عن أبيه المشلول!

هكذا أصبح حال الواقع  المعاصر الذي ضاعت عنه  مفاتيح السعادة  بضياع المبادئ والقيم بين الناس ، وأصبحت العلاقات الاجتماعية مبنية على المصالح الذاتية للأفراد...ولم نعد خير خلف لخير سلف للأسف!





No comments:

Post a Comment